( صفحه 178 )
باعتبار ذهاب الحمرة المشرقيّة.
وعلى ما ذكرنا لا يبقى وجه لحمل التعليل على غروب الشمس عن النظر في بلد لمكان جبل ونحوه، كما أنّه لا وجه لحمل الأمر بالمسّ على الاستحباب، بدعوى أنّ المسّ شيئاً ما يتحقّق بالانتظار إلى رؤية الكوكب، المتحقّقة قبل تجاوز الحمرة عن قمـّة الرأس(1); فإنّه ـ مضافاً إلى ما عرفت(2)من شهادة بعض الروايات بتأخّر الرؤية عن الاستتار، والبعض الآخر قد صرّح بأنّها هي أوّل الوقت ـ يردّه أنّ التعليل بذلك لا يلائم مع الاستحباب، كما لايخفى.
ومنها: موثقة عبد الله بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصالح (عليه السلام) : يتوارى القرص ويقبل الليل ثمّ يزيد الليل ارتفاعاً، وتستتر عنّا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذّن عندنا المؤذِّنون، أفاُصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً؟ أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ: أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك(3).
وفي الرواية احتمالان:
أحدهما: أن يكون السؤال عن الغروب الشرعيّ الذي رتّب عليه أحكام في الشريعة، بحيث كان السائل مردّداً بين أن يكون المراد به هو الاستتار الذي كان هو المدار عند الناس، وعليه يقع الأذان، وبين أن يكون المراد به
- (1) تقدّمت في ص174 ـ 175.
- (2) في ص173 وما بعدها.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 259 ح1031، الاستبصار 1: 264 ح952، وعنهما وسائل الشيعة 4: 176، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب16 ح14.
( صفحه 179 )
هو ذهاب الحمرة المشرقيّة، فالشبهة حينئذ شبهة حكميّة مرجعها إلى السؤال عن بيان الغروب في الشرع.
ويبعّد كون المراد ذلك أنّه بناءً عليه لا معنى لإلزام الأخذ بالاحتياط; فإنّ الإرجاع إليه لا يناسب مقام العلم بجميع الأحكام الإلهيّة الثابت في الأئمـّة المعصومين (عليهم السلام) بلا إشكال، إلاّ أن يقال: المراد هو بيان الحكم الواقعي في قالب الاحتياط لرعاية التقيّة، لكنّه إنّما يتمّ لو لم يكن للرواية محمل آخر، مع أنّ هذا الاحتمال إنّما يبتني على كون المراد من الحمرة هي الحمرة المشرقيّة، وليس في الرواية دلالة عليه; فإنّ الظاهر أنّ المراد منها هي الحمرة المحاذية للقرص المرتفعة فوق الجبل الذي يكون في ناحية المغرب، الكاشفة عن عدم استتاره.
ودعوى أنّه لا شاهد على كون المراد من الجبل هو الواقع في تلك الناحية، ومن الممكن أن يكون المراد منه هو الجبل الواقع في المشرق. وعليه: فالمراد بالحمرة هي الحمرة المشرقيّة.
مدفوعة بظهور كون المراد منه هو الجبل الذي استترت الشمس خلفه.
ثانيهما: أن يكون مورد السؤال هي الشبهة الموضوعيّة، بحيث كان الاعتبار بالاستتار محرزاً عند السائل، وإنّما شكّه في تحقّقه وعدمه، ومنشؤه حيلولة الجبل واستتار القرص خلفه، ولكنّ الحمرة المرتفعة فوق الجبل تكشف ظنّاً عن عدم استتاره عن الاُفق بالمرّة.
وعليه: فالأمر بالأخذ بالاحتياط إنّما هو في مورد الشبهة الموضوعيّة، ومنشؤه استصحاب بقاء النهار وعدم تحقّق الاستتار، والظاهر من الرواية
( صفحه 180 )
هذا الاحتمال. وعليه: فلا دلالة لها على مرام المشهور لو لم نقل بدلالتها على الخلاف من جهة ابتناء السؤال على مفروغيّة الاعتبار بالاستتار، فتدبّر.
ومنها: رواية محمد بن شريح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن وقت المغرب؟ فقال: إذا تغيّرت الحمرة في الاُفق، وذهبت الصفرة، وقبل أن تشتبك النجوم(1).
واُورد عليها ـ مضافاً إلى أنّها ضعيفة السند بعليّ بن الحارث لجهالته، وبكّار لعدم توثيقه ـ بقصور دلالتها; لأنّ تغيّر الحمرة إنّما يتحقّق عند دخول الشمس تحت الاُفق، وهو زمان ذهاب الصفرة في قبال اشتباك النجوم وذهاب الشفق(2).
أقول: وإن لم تكن في الرواية دلالة على كون المراد بالحمرة هي الحمرة المشرقيّة. وعليه: فيحتمل بدواً أن يكون المراد بها هي الحمرة المغربيّة، إلاّ أنّ ظهور السؤال في كونه عن أوّل الوقت ـ كما في جميع الروايات التي عبّر فيها عن أوّل الوقت بذلك ـ قرينة على كون المراد هي الحمرة المشرقيّة.
وعليه: فالمراد بتغيّرها هو تغيّرها إلى السواد; وهو الحاصل بعد الذهاب والتجاوز عن قمـّة الرأس، كما أنّ المراد من ذهاب الصفرة لا يكون أمراً آخر وراء تغيّر الحمرة، بل هو بمعناه.
- (1) تهذيب الأحكام 2: 257 ح1024، وعنه وسائل الشيعة 4: 176، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب16 ح12.
- (2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 251، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 11: 176.
( صفحه 181 )
نعم، ربما يقال: إنّ ذيل الرواية يكون بصدد بيان آخر الوقت(1)، ولكنّه يدفعه رواية جارود قال:
قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : يا جارود يُنصحون فلا يقبلون، وإذا سمعوا بشيء نادوا به أو حُدّثوا بشيء أذاعوه، قلت لهم: مسّوا بالمغرب قليلاً، فتركوها حتّى اشتبكت النجوم، فأنا الآن اُصلّيها إذا سقط القرص(2).
فإنّ ظاهرها أنّ النظر في الإتيان بصلاة المغرب قبل اشتباك النجوم إنّما هو إلى أوّل وقتها، وهو الذي خالفوا فيه الإمام (عليه السلام) ، فتركوها قبل الاشتباك، فتدبّر.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا تماميّة أكثر الروايات الدالّة على اعتبار ذهاب الحمرة المشرقيّة من حيث السند والدلالة، ولابدّ من الجمع بينها، وبين أخبار الاستتار على تقدير إمكانه، وعلى فرض عدم الإمكان من بيان أنّ الترجيح مع أيّهما، فنقول:
قد ذكر للجمع وجوه:
أحدها: ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) ممّا يرجع إلى أنّ الاحتمالات المتصوّرة الجارية في أخبار الاستتار أربعة:
الأوّل: أن يكون المراد هو استتار الشمس وغيبوبتها عن نظر المصلّي ولو كان هناك حاجب من الجبل والطلّ ونحوهما.
- (1) نهاية التقرير 1: 129.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 259 ح1032، وعنه وسائل الشيعة 4: 177، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب16 ح15.
( صفحه 182 )
الثاني: أن يكون الاعتبار باستتارها عن أرض المصلّي، بحيث لا يكاد يراها أحد من الساكنين في أرضه ولو لم يكن حاجب ومانع.
الثالث: أن يكون الاعتبار باستتارها عن أرض المصلّي، وكذا عن جميع الأراضي الموافقة لها من حيث الاُفق.
الرابع: أن يكون المراد استتارها عن الاُفق الحقيقي المنصف للكرة.
وكلمة الاستتار والغيبوبة وإن لم تكن مجملة من حيث المفهوم، إلاّ أنّه يجري فيها باعتبار المستور عنه هذه الاحتمالات الأربعة، وتصير الروايات من هذه الجهة مجملة.
وعليه: فيمكن أن يقال بأنّ أخبار الحمرة ترفع الإجمال; لأنّ التنافي بين الطائفتين إنّما يتوقّف على كون المراد من أخبار الاستتار واحداً من الاحتمالين الأوّلين; ضرورة أنّه لو كان المراد منها واحداً من الاحتمالين الأخيرين لا يكون بينهما تعارض أصلاً.
وعليه: فلا مانع من الالتزام بأنّ أخبار الحمرة حاكمة عليها ومفسِّرة للمراد منها، وشارحة لما هو المستور عنه، وناظرة إلى أنّ المراد من الغيبوبة ليس هي الغيبوبة عن نظر المصلّي أو أرضه فقط، بل الغيبوبة عن جميع الأراضي المتساوية لها في الاُفق، أو عن جميع نقاط الاُفق الحقيقي(1).
أقول: وإن كان يؤيّد هذا الجمع رواية بريد بن معاوية المتقدّمة(2)، التي تدلّ على ثبوت الملازمة بين غيبوبة الحمرة من جانب المشرق، وغيبوبة
- (1) نهاية التقرير 1: 130 ـ 131.
- (2) في ص167.