( صفحه 206 )
فالمراد من النصف أيضاً ما في الاحتمال الأوّل.
هذا، وقد أصرّ بعض الأعلام على ترجيح الاحتمال الثاني، وحاصل ما يستفاد من كلامه في وجه تعيّنه اُمور:
الأوّل: قوله ـ تعالى ـ : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(1); نظراً إلى أنّ الغسق بحسب اللغة إمّا بمعنى ظلمة أوّل الليل، أو بمعنى شدّة ظلمة الليل وغايتها، ومقتضى الأخبار(2) الواردة في تفسير الغسق إرادة المعنى الثاني; حيث فسّر فيها بانتصاف الليل، فيستفاد منها أنّ انتصاف الليل إنّما هو زمان شدّة ظلمته ونهايتها، وإلاّ فليس الغسق بمعنى الانتصاف، كما هو واضح.
ثمّ إنّ من المعلوم أنّ اشتداد الظلمة ونهايتها إنّما هو في النصف فيما بين غروب الشمس وطلوعها; وسرّه أنّ إضاءة أيّة نقطة من الكرة الأرضيّة وتنوّرها إنّما تستندان إلى الشمس لا محالة، فكلّما قربت الشمس من نقطة من الأرض أخذت تلك النقطة بالاستضاءة والتنوّر حتّى يطلع الفجر، فتصير تلك النقطة مضيئة ومتنوّرة بمقدار ضئيل، ثمّ تزداد تنوّرها; واستضاءتها إلى أن تطلع الشمس وتخرج عن تحت الاُفق، فتأخذ بالاشتداد شيئاً فشيئاً إلى أن تبلغ دائرة نصف النهار، وهو نهاية ضياؤها وتنوّرها; لأنّه نهاية اقتراب الشمس من الأرض.
فإنّ الشمس بعدما بلغت إلى تلك الدائرة تأخذ في الابتعاد، وبه تضعف
- (1) سورة الإسراء 17: 78.
- (2) تقدّمت في ص131 ـ 132، وتأتي بعضها في ص221.
( صفحه 207 )
استضاءة تلك النقطة، وينقص نورها حتى تغرب الشمس، وتظلم تلك النقطة بمقدار قليل، وكلّما أخذت الشمس في الابتعاد عنها أخذت الظلمة فيها بالاشتداد إلى أن تصل الشمس مقابل دائرة نصف النهار من تحت الأرض، ولنعبر عنه بدائرة منتصف الليل، وهذه نهاية الظلمة في تلك النقطة; لأنّه غاية ابتعاد الشمس عنها.
فالمراد بالغسق شدّة الظلام; وهي إنّما تكون فيما إذا وصلت الشمس مقابل دائرة نصف النهار; وهو الذي يسمّى بمنتصف الليل، فهو إذاً عبارة عن منتصف ما بين غروب الشمس وطلوعها(1).
أقول: هذا عمدة دليله، ويمكن الإيراد عليه بأنّ مقتضى ما أفاده أن يكون مقدار الظلمة في الساعة التي ابتعدت الشمس عن الأرض بغروبها مساوية مع مقدارها في مثل تلك الساعة ممّا قربت الشمس إلى الأرض بطلوعها، فيلزم أن يكون مقدار الظلمة في نصف ساعة إلى الطلوع مثلاً مساوياً لمقدارها في نصفها بعد الغروب، مع أنّه من المحسوس بالوجدان تحقّق الظلمة في أوّل الليل سريعاً وارتفاعها بين الطلوعين بطيئاً، ولا تكون الظلمتان متساويتين من حيث المقدار بوجه.
نعم، ما أفاده صحيح على تقدير أن يكون هناك مثلاً دائرة حقيقيّة تدور عليها الشمس، وفرضنا وقوع الأرض في وسطها الحقيقي، مع أنّه لا يكون كذلك، وقد مرّ(2) في بعض الروايات السابقة، وفي الفرق بين الحمرة المشرقيّة
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 267 ـ 269.
- (2) في ص168 ـ 171.
( صفحه 208 )
في ناحية الغروب، والحمرة المغربيّة في ناحية الطلوع، ثبوت الفرق بين المشرق والمغرب، وأنّ الأوّل مطلّ ومشرف على الثاني.
وعليه: فيمكن تحقّق اشتداد الظلمة ونهايتها قبل وصول الشمس إلى النقطة المقابلة لنقطة نصف النهار بحيث لم يكن بلوغها إلى المرتبة الشديدة من الظلمة متوقّفاً على مضيّ اثنتي عشرة ساعة من زوال الشمس، بل متحقّقاً قبل ذلك بأقلّ من ساعة، كما يقول به المشهور(1).
وبالجملة: فكون الغسق بمعنى شدّة الظلمة لا يقتضي ما أفاده أصلاً.
الثاني: قوله ـ عزّ من قائل ـ : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ...)(2); فإنّه قد فسّر طرفي النهار بالمغرب والغداة(3). وعليه: فتدلّ الآية المباركة على أنّ الغداة طرف النهار لا من النهار، كما هو كذلك في المغرب.
ودعوى أنّ الطرف قد يطلق ويراد به مبدأ الشيء ومنتهاه من الداخل دون الخارج، والمقام من هذا القبيل.
مندفعة بأنّ الطرف وإن كان كذلك، إلاّ أنّه حيث يكون أحد الطرفين في الآية المباركة هو المغرب على ما دلّت عليه صحيحة زرارة(4)، ولا شبهة في أنّه طرف خارجيّ، فبمقتضى المقابلة لابدّ من أن يكون الطرف الآخر أيضاً طرفاً خارجيّاً عن النهار، فتدلّ الآية على أنّ الغداة كالمغرب خارجة عن النهار(5).
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 271، وانظر ص205.
- (2) سورة هود 12: 114.
- (3) تفسير القمّي 1: 338، مجمع البيان 5: 310.
- (4) تقدّم تخريجها في ص132.
- (5) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 275.
( صفحه 209 )
والجواب: أنّ ظهور هذه الفقرة من الصحيحة في خروج الغداة عن النهار كالمغرب وإن كان لا ينبغي أن ينكر، إلاّ أنّ ذيل الصحيحة يدلّ بالصراحة على دخول الغداة في النهار، وأنّ إطلاق الصلاة الوسطى على صلاة الظهر إنّما هو بلحاظ وقوعها وسطاً بين صلاتين بالنهار. ومن الواضح: كون النصّ أو الأظهر قرينة على التصرّف في الظاهر دون العكس.
وعليه: فلا مانع من أن يكون المراد بأحد الطرفين هو الطرف الداخلي، وبالآخر هو الطرف الخارجي، ولعلّ الوجه في التفكيك عدم ثبوت الطرف الخارجي قبل الغداة; لعدم ثبوت صلاة مفروضة قبل طلوع الفجر; لانتهاء العشاءين بانتصاف الليل الذي هو معنى غسق الليل، كما عرفت(1)، بخلاف المغرب الذي يكون الصلاة الواجبة فيه متّصلة بالنهار.
وبالجملة: لا مجال للمناقشة في كون الذيل قرينة على التصرّف في الصدر، وسيأتي التعرّض لمفاد الصحيحة في الجواب عن الوجه الثالث، فانتظر.
الثالث: الروايات الدالّة على تسمية الزوال نصف النهار، كصحيحة زرارة المتقدّمة(2)، المشتملة على قوله (عليه السلام) : «وقال ـ تعالى ـ : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى); وهي صلاة الظهر; وهي أوّل صلاة صلاّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ; وهي وسط النهار، ووسط صلاتين بالنهار: صلاة الغداة وصلاة العصر».
- (1) في ص206 ـ 208.
- (2) وسائل الشيعة 4: 11، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، ب2 قطعة من ح1، وقد تقدّم تخريجها في ص132.
( صفحه 210 )
وتقريب الاستدلال بها أنّ من الظاهر أنّ نصف النهار يحسب من طلوع الشمس لا من طلوع الفجر، وإلاّ لم يكن الزوال نصف النهار، بل كان متأخّراً عنه بثلاثة أرباع الساعة. نعم، قوله (عليه السلام) : «ووسط صلاتين بالنهار إلخ» لا يخلو عن إجمال وغموض; لدلالته على كون صلاة الغداة صلاة نهاريّة، وهذا ينافيه التصريح بأنّ وقت صلاة الظهر وسط النهار، ففي الصحيحة تناقض ظاهر، ولابدّ من ارتكاب التأويل فيها بوجه.
بأن يقال: إنّ صلاة الغداة إنّما اُطلقت عليها صلاة النهار نظراً إلى امتداد وقتها إلى طلوع الشمس وإشرافه عليه، وجواز الإتيان بها قبل الطلوع بزمان قليل وإن لم يكن من الصلوات النهاريّة حقيقة.
وممّا دلّ على تسمية الزوال نصف النهار روايات كثيرة واردة في الصائم الذي يريد السفر.
كصحيحة الحلبي أو حسنته، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه سُئل عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم؟ قال: فقال: إن خرج من قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقض ذلك اليوم، وإن خرج بعد الزوال فليتمّ يومه(1).
وفي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار، فعليه صيام ذلك اليوم، الحديث(2)،(3).
- (1) الكافي 4: 131 ح1، الفقيه 2: 92 ح412، تهذيب الأحكام 4: 228 ح671، الاستبصار 2: 99 ح321، وعنها وسائل الشيعة 10: 185، كتاب الصوم، أبواب مَن يصحّ منه الصوم ب5 ح2.
- (2) الكافي 4: 131 ح4، تهذيب الأحكام 4: 229 ح672، الاستبصار 2: 99 ح322، الفقيه 2: 92 ح413، وعنها وسائل الشيعة 10: 185، كتاب الصوم، أبواب مَن يصحّ منه الصوم ب5 ح1.
- (3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 275 ـ 277.