( صفحه 380 )المسألة مشكل، وللتوقّف فيها مجال.
ثمّ إنّك عرفت أنّه على تقدير اعتبار الروايات المتقدّمة، يكون مقتضى الجمع بينها هو اعتبار الأذان إذا كان المؤذِّن ثقة عارفاً بالوقت; لأنّ بعضها وإن كان ظاهراً في حجّية الأذان مطلقاً، كإحدى مرسلتي الصدوق، إلاّ أنّ التعليل الوارد في صحيحة ذريح المحاربي(1) بقوله (عليه السلام) : «إنّهم أشدّ شيء مواظبة على الوقت» يقتضي قصر الحكم على ما إذا كان المؤذِّن ثقة وكان عارفاً بالوقت; لأنّ شدّة المواظبة على الوقت تقتضي ذلك.
كما أنّه حيث يكون موردها، ومورد بعض الروايات الاُخر بل كثيرها أذان المخالفين، فاللاّزم عدم اعتبار العدالة التي لا تكاد تجتمع مع عدم الإيمان، كما هو ظاهر.
وهل يعتبر إفادة أذانه للظنّ الفعلي بحيث يكون الحكم بالاعتبار دائراً مداره؟ الظاهر العدم; لعدم الدليل على اعتباره. نعم، لو قلنا بأنّ صحيحة ذريح إنّما تكون في مقام الإرشاد إلى ما هو مستمرّ عند العقلاء، وقلنا باختصاص مورد السيرة بما إذا حصل الظنّ الفعلي بل الاطمئنان، لكان اللاّزم الحكم باعتباره، ولكن كلّ واحد من الأمرين خلاف الظاهر، فتدبّر.
وممّا ذكرنا من عدم دوران الحكم بالاعتبار مدار الظنّ يستفاد بطلان استشهاد صاحب الحدائق بهذه الأخبار لكفاية الظنّ بدخول الوقت; نظراً إلى أنّ غاية ما يفيد أذان المؤذِّن هو الظنّ; وإن تفاوتت مراتبه شدّة وضعفاً باعتبار المؤذِّنين، وما هم عليه من زيادة الوثاقة والضبط في معرفة الأوقات
( صفحه 381 )وعدمها(1).
وجه البطلان، أنّ الحكم بكون الملاك في اعتبار أذان المؤذِّن الذي هو مفاد تلك الأخبار; هو إفادته للظنّ ممّا لا يساعده دليل، بل هو من مقولة قياس مستنبط العلّة، الذي لا اعتبار به عندنا بوجه; فإنّ جعل الأذان حجّة لا دلالة له على جعل الظنّ كذلك، وقد عرفت(2) أنّه لا دلالة على حجّية الخبر، القولي الصريح أيضاً; لأنّه لم يعلم أنّ الأذان إنّما جعل حجّة لأجل كونه خبراً، بل الظاهر خلافه.
ثمّ الظاهر أنّ حجّية البيّنة وكذا أذان الثقة وإخباره على تقدير اعتبارهما إنّما هو فيما إذا كان المخبر به حسيّاً لا يتطرّق فيه احتمال الخطأ احتمالاً عقلائيّاً، كالإخبار في المقام ببلوغ الفيء موضع كذا، أو زيادة الظلّ بعد نقصانه، أو ذهاب الحمرة المشرقيّة وتجاوزها عن قمـّة الرأس، أو حدسيّاً كذلك، كقيام البيّنة على العدالة، أو الاجتهاد، أو ما يشابههما من الملكات المستكشفة من آثارها.
وأمّا في غير هذه الصورة، كما إذا اعتمد في زماننا على هذا على مثل الساعة، فالظاهر عدم شمول أدلّة الحجّية لها، كما لا يخفى.
المقام الثاني: في ذي العذر العامّ، وقد أفتى في المتن بجواز التعويل على الظنّ فيه، وهو المشهور، بل عن التنقيح وغيره دعوى الإجماع عليه(3)،
- (1) الحدائق الناضرة 6: 296.
- (2) في ص369 ـ 370.
- (3) كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 78، الحاشية على مدارك الأحكام 2: 320، التنقيح الرائع 1: 171، الحدائق الناضرة 6: 296، مفتاح الكرامة 5: 144 ـ 146، جواهر الكلام 7: 432 ـ 436.
( صفحه 382 )خلافاً لابن الجنيد، فقال على ما حكي عنه(1): ليس للشاكّ يوم الغيم ولا غيره أن يصلّي إلاّ عند تيقّنه الوقت. ومالَ إليه صاحب المدارك(2).
ومستند المشهور روايات يستفاد منها ذلك، عمدتها:
رواية أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل صام ثمّ ظنّ أنّ الشمس قد غابت وفي السماء غيم فأفطر، ثمّ إنّ السحاب انجلى فإذا الشمس لم تغب؟ فقال: قد تمّ صومه ولا يقضيه(3).
ونوقش(4) فيها بضعف السند من جهة الراوي عن أبي الصباح، وهو محمّد بن الفضيل بن الكثير الضعيف، ولكن يدفعها ـ مضافاً إلى أنّ استناد المشهور إليها، سيّما في الحكم الذي يكون مخالفاً للقاعدة; لما عرفت(5) من أنّ مقتضاها عدم جواز الاعتماد على غير العلم، يكفي في انجبار الضعف ـ : أنّ مضمون هذه الرواية قد ورد في روايات معتبرة معمول بها عند الأصحاب، كما يظهر بمراجعة الوسائل(6).
وأمّا من حيث الدلالة، فالظاهر أنّ المراد من الظنّ هو معناه العرفي المقابل للشكّ والوهم واليقين، واستعماله أحياناً بمعنى اليقين في الكتاب والسنّة،
- (1) حكى عنه في مختلف الشيعة 2: 66 مسألة 18.
- (2) مدارك الأحكام 3: 98 ـ 99.
- (3) تهذيب الأحكام 4: 270 ح816 ، الاستبصار 2: 115 ح374، الفقيه 2: 75 ح326، وعنها وسائل الشيعة 10: 123، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب51 ح3.
- (4) مدارك الأحكام 3: 99، معجم رجال الحديث 17: 144 ـ 148.
- (5) في ص367، المقام الأوّل.
- (6) وسائل الشيعة 10: 122، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب51.
( صفحه 383 )كما في قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(1) لايوجب الحمل على خلاف ما هو ظاهر فيه مع عدم قرينة، خصوصاً مع أنّ استعماله فيهما في مقابل العلم كثير جدّاً، كما يظهر للمتتبّع، فالمراد ما هو معناه الظاهر.
وأمّا ورود الرواية في باب الصوم، فلا دلالة له على الاختصاص، لا لأجل عدم القول بالفرق، بل لأجل أنّ المستفاد من الرواية أنّ الوظيفة فيما إذا كان هناك غيم هو الاعتماد على الظنّ، وأنّه طريق شرعيّ معتبر في هذه الصورة، ولا فرق فيه بين أسباب حصوله ومقدّمات تحقّقه. نعم، لا ينبغي الارتياب في عدم اختصاص ذلك بخصوص ما إذا كان المانع العامّ هو الغيم، بل يجري الحكم في جميع الأعذار العامّة، كالرياح المظلمة ونحوها.
ودعوى أنّ المستفاد من مثل الرواية هو اعتبار الظنّ مطلقاً ولو مع عدم ثبوت المانع أصلاً; لأنّ وروده في الغيم لا يقتضي الاختصاص، كما عن صاحب المستند(2).
مدفوعة بعدم جواز التعدّي عن مورد الرواية، خصوصاً مع ملاحظة ما ذكرنا من كون الحكم على خلاف القاعدة. نعم، قد عرفت عدم كون خصوصيّة الغيم من بين الأعذار العامّة دخيلة في الحكم على ما هو المتفاهم عند العرف.
- (1) سورة البقرة 2: 46.
- (2) لاحظ مستند الشيعة 4: 90 ـ 97، وج10: 289 ـ 295، ولكن في النسبة نظر، ولعلّ المراد من «صاحب المستند» السيّد الخوئي (قدس سره) في المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 11: 388 ـ 389.
( صفحه 384 )وأمّا إلغاء خصوصيّة العذر مطلقاً، فلا شاهد عليه أصلاً، فالرواية على ذلك تامّة من حيث السند والدلالة.
وما رواه الصدوق بإسناده عن سماعة بن مهران أنّه سأله عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس والقمر ولا النجوم؟ فقال: تجهّد (تجتهد خ ل) رأيك وتعتمد (تعمّد خ ل) القبلة بجهدك(1).
والظاهر أنّ السؤال مسوق لبيان اشتباه الأوقات للصلوات المجعولة في الليل والنهار مع عدم رؤية الشمس والقمر والنجوم، ولكنّه استظهر في محكيّ الحدائق أن يكون المراد هو الاجتهاد في القبلة، وأنّ العطف يكون تفسيريّاً، فلا تكون الرواية من المسألة في شيء(2).
أقول: ويبعّد ما استظهره أنّ المنساق من السؤال ليس إلاّ ما ذكرنا من اشتباه الأوقات عند عدم رؤية مثل الشمس، والحمل على اشتباه القبلة يقتضي التخصيص بالسفر; لأنّ تشخيص القبلة في الحضر لا يكون بسبب رؤية الشمس ونحوها; لأنّ تشخيصها إنّما يكون غالباً بغيرها، ولا يختلف فيه الرؤية وعدمها، وحمل مورد السؤال على خصوص السفر في غاية البعد، مع أنّ الظاهر أنّ مفروض السائل أنّ ما كان معرّفاً له من العلامات مفقودة، وجواب الإمام (عليه السلام) على تقدير كون المراد اشتباه القبلة لا يناسب ذلك; لعدم كون الاُمور المذكورة علامة لتشخيصها.
نعم، يبقى الكلام في قوله (عليه السلام) : «وتعمّد القبلة بجهدك»، والظاهر أنّ المراد أنّ
- (1) الفقيه 1: 143 ح667، وعنه وسائل الشيعة 4: 308، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب6 ح3.
- (2) الحدائق الناضرة 6: 301.