( صفحه 398 )وأمّا النافلة في حال الاستقرار، فالمشهور هو اعتبار الاستقبال فيها(1)، بل في محكيّ مفتاح الكرامة: وبه صرّح في جميع كتب الأصحاب إلاّ ما قلّ(2)، ويدلّ عليه اُمور:
الأوّل: ارتكاز المتشرّعة، وكون الصلاة مستقرّاً إلى غير القبلة من المنكرات عندهم; من دون فرق بين الفريضة والنافلة، ولا يسمعون اعتذار الآتي بها بكونها نافلة، ولكن لابدّ من ملاحظة أنّ هذا الارتكاز هل نشأ من فتوى مراجعهم بذلك بحيث كان متفرّعاً عليها، أو أنّ له منشأً أصيلا لا يرتبط بالفتوى، بل الفتوى مرتبطة إليه، وذلك المنشأ هو ما وصل إليهم وارتكز لديهم خلفاً عن سلف؟ والظاهر هو الثاني; لثبوت الفرق بين مثل هذا الارتكاز، وبين الارتكازات الناشئة عن التقليد والاستناد إلى فتوى المرجع، كما لا يخفى.
الأمر الثاني: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: لا صلاة إلاّ إلى القبلة. قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه: قال: قلت: فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال: يعيد(3).
فإنّ نفي طبيعة الصلاة وماهيّتها عمّا وقع إلى غير القبلة يدلّ على اعتبار استقبالها في النافلة أيضاً، وخروجها في حال عدم الاستقرار لا يقدح ببقائها في غير هذا الحال، فمقتضى الصحيحة الاعتبار، ولا دلالة على عدمه فيه.
- (1) غاية المراد 1: 117 ـ 118، كشف اللثام 3: 150، مفتاح الكرامة 5: 327، جواهر الكلام 8 : 6.
- (2) مفتاح الكرامة 5: 327.
- (3) الفقيه 1: 180 ح855 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 312، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب9 ح2.
( صفحه 399 )وأورد على الاستدلال بها بوجهين:
أحدهما: أنّ ذيل الرواية قرينة على ورود الصدر في خصوص الفريضة; لاختصاص الذيل بها; فإنّ وجوب الإعادة المستفادة من قوله (عليه السلام) : «يعيد» لا يكاد ينطبق إلاّ على الفريضة التي أتى بها إلى غير القبلة، أو في غير الوقت; ضرورة أنّ النافلة الواقعة كذلك لا تجب إعادتها، فوجوب الإعادة إنّما هو في الفريضة، وإذا كان الذيل وارداً فيها، فهو قرينة على اختصاص الصدر بها أيضاً، فالمراد أنّه لا صلاة فريضة إلاّ إلى القبلة. وعليه: فالاستدلال بها للنافلة ممّا ليس له مجال(1).
ويدفعه أوّلاً: أنّ الذيل لا دلالة له على وجوب الإعادة; فإنّ الإعادة بما هي إعادة لا يمكن أن يتعلّق بها الحكم المولوي الذي يترتّب عليه استحقاق العقوبة على تقدير المخالفة; ضرورة أنّ ترك الإعادة في الفريضة في مفروض الرواية لا يوجب إلاّ ثبوت المخالفة بالإضافة إلى أصل التكليف بالصلاة إلى القبلة وفي الوقت، لا تحقّقها بالنسبة إلى وجوب الإعادة الدالّة عليه الرواية، فالإعادة لاتكون متعلّقة للحكم الوجوبيّ المولوي، فالأمر في الرواية ليس إلاّ للإرشاد إلى فساد الصلاة في الصورتين، وهو يجتمع مع كون مورد السؤال شاملا للنافلة أيضاً، فالذيل لا يكون مختصّاً بالفريضة حتّى يصير قرينة على اختصاص الصدر بها أيضاً.
وثانياً: أنّ الذيل على تقدير الاختصاص لا يصلح أن يصير قرينة على اختصاص الصدر; وذلك لأنّ الصدر يكون كلاماً ابتدائيّاً مستقلاًّ صادراً من
- (1) مصباح الفقيه 10: 147 ـ 148.
( صفحه 400 )الإمام (عليه السلام) لإفادة ضابطة كلّية، وبيان أنّ الصلاة إلى غير القبلة لا تكاد تصدق عليها الماهيّة وتنطبق عليها الحقيقة، والذيل إنّما وقع جواباً عن سؤال زرارة، وكيف يصلح الجواب الذي لا يكاد يصدر من الإمام (عليه السلام) من دون تحقّق السؤال قرينة على تقييد الضابطة الكلّية التي أفادها في الصدر، بل الذيل بمنزلة رواية مستقلّة مشتملة على السؤال والجواب.
وبعبارة اُخرى: هل يجوز ترك التقييد في مقام إفادة الضابطة اعتماداً على أنّه يمكن أن يقع عقيبها سؤال، ولا محالة يتحقّق بعده جواب، ويكون ذلك الجواب قرينة عليه، وعلمه (عليه السلام) بوقوع السؤال بعده لا يسوغ الترك أصلا، فالإنصاف أنّ ذيل الرواية بمنزلة رواية مستقلّة لا تصلح لأن تصير قرينة على التصرّف في الصدر، فالاستدلال بالرواية لمذهب المشهور تامّ.
ثمّ إنّ المراد من قوله (عليه السلام) في بيان حدّ القبلة: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» سيأتي التكلّم فيه، وأنّه هل المراد كونه قبلة في جميع الحالات ولجميع المكلّفين، كما هو ظاهره، أو في بعض الحالات؟ كما أنّه سيأتي بيان أصل المراد ممّا بين المشرق والمغرب إن شاء الله تعالى، فانتظر(1).
ثانيهما: أنّ خروج الفرد في بعض أحواله عن حكم العامّ يوجب أن لا يجوز التمسّك بالعامّ بالنسبة إلى ذلك الفرد في غير تلك الحال; وذلك لعدم كون الشكّ في تخصيص زائد حتّى يدفع بأصالة العموم الجارية في موارد الشكّ في أصل التخصيص، أو في التخصيص الزائد. وعليه: فلا يجوز التمسّك بعموم قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» بعد خروج النافلة في حال
( صفحه 401 )عدم الاستقرار عنه; لأجل الروايات المتقدّمة الدالّة على عدم اعتبار الاستقبال فيها في تلك الحال لما ذكر، فالاستدلال بالصحيحة غير صحيح(1).
والجواب: أنّ قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» إمّا أن يكون نكرة واقعة في سياق النفي وهي تفيد العموم، وإمّا أن يكون لنفي الجنس والطبيعة; نظراً إلى كون المنفي هو اسم الجنس الذي لا دلالة له إلاّ على الطبيعة المطلقة.
فعلى الأوّل: لابدّ من ملاحظة أنّ العموم الذي هو مفاد هذا القول، هل هو العموم الأفرادي الذي مرجعه إلى أنّ كلّ فرد يتحقّق في الخارج بعنوان الصلاة، فهو فرد مستقلّ داخل في العموم من دون واسطة، فالمراد حينئذ أنّ كلّ ما يؤتى به في الخارج بعنوان تحقّق ماهيّة الصلاة، فالانطباق يتوقّف على وقوعه إلى القبلة والتوجّه فيه إليها، أو أنّ العموم الذي هو مفاد هذا القول هو العموم بلحاظ الأنواع الواقعة تحت ماهيّة الصلاة وجنسها، بحيث كانت صلاة النافلة مثلا فرداً واحداً من أفراد العامّ، وصلاة الظهر أيضاً كذلك، وهكذا، ومرجعه حينئذ إلى أنّه لايتحقّق نوع من أنواع الصلاة إلاّ مع التوجّه فيه إلى القبلة؟
فإن كان المراد هو الأوّل الذي يكون كلّ صلاة موجودة في الخارج فرداً واحداً مستقلاًّ، فلا يبقى مجال للإشكال في صحّة التمسّك بعموم قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»; لأنّ النافلة في حال الاستقرار فرد مستقلّ بل أفراد مستقلّة شكّ في خروجها، فالشكّ لا محالة إنّما هو في التخصيص الزائد، وخروج أفراد كثيرة بعنوان واحد ـ وهي النافلة في حال عدم الاستقرار ـ
- (1) مصباح الفقيه 10: 148.
( صفحه 402 )لا يوجب عدم كون الشكّ في غير أفراد هذا العنوان في التخصيص الزائد، كما لا يخفى، فعلى هذا الاحتمال لا يبقى للإشكال مجال.
وإن كان المراد هو الثاني الذي يكون كلّ نوع فرداً واحداً، فالنافلة في حال عدم الاستقرار فرد واحد خارج في بعض الأحوال، فالمقام نظير ما إذا ورد «أكرم كلّ عالم»، ثمّ قام الدليل على عدم وجوب إكرام زيد العالم في يوم الجمعة، وشكّ في وجوب إكرامه في غير ذلك اليوم، حيث إنّ زيداً فرد واحد خارج عن العموم في يوم الجمعة، فعدم جواز التمسّك بالعامّ حينئذ محلّ نظر بل منع، ولتوضيحه نقول:
لابدّ من ملاحظة أنّ إخراج فرد في حال، هل يكون مرجعه إلى التصرّف في عموم العامّ وإخراج الفرد منه، أو أنّ حقيقته التصرّف في الإطلاق الأحوالي الثابت للعامّ، مضافاً إلى العموم الأفرادي، بحيث لو فرض عدم ثبوت الإطلاق الأحوالي لا يكون هناك تصرّف أصلا؟
الظاهر هو الثاني; لأنّ إخراج الفرد في حال لا ينافي العموم اللغوي بوجه; لأنّ مفاده دخول تمام الأفراد في حكم العامّ من غير تعرّض لحالات الافراد، والدليل المخرج لا دلالة له على خروج فرد من العامّ رأساً حتّى يكون تخصيصاً، بل يدلّ على خروجه في حال، وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الشمول لجميع الحالات.
وعليه: فالشكّ في ثبوت حكم العامّ بالنسبة إلى ذلك الفرد في غير تلك الحال مرجعه إلى الشكّ في تقييد زائد على التقييد المعلوم، وأصالة الإطلاق ترفع هذا الشكّ، فإذا قام الدليل على وجوب الوفاء بكلّ عقد، كما هو مفاد