( صفحه 149 )
ولذلك تعجّب أبو اُمامة من فعل أنس فيما رواه البخاري عنه، حيث إنّه قال: صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثمّ خرجنا حتّى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلّي العصر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ فقال: العصر وهذه صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، التي كنّا نصلّي معه(1).
وقد التزموا بعدم اشتراك الوقت حتى في موارد الجمع، كما في السفر وعند المطر، وبأنّ وقت الصلاة الاُولى يصير مضيّقاً بسبب الآخر(2).
وبالجملة: الجمع بين الصلاتين كان من المنكرات عندهم، وحينئذ لا يبقى الارتياب في أنّ أخبار الاشتراك إنّما وردت لإبطال هذه العقيدة، ولبيان الحكم الواقعي، وأنّه لا يجب الانتظار للإتيان بصلاة العصر بعد الإتيان بالظهر، كما عليه الجمهور، بل يجوز الإتيان بهما معاً بعد الزوال بلا فصل، ولا تكون الروايات بصدد بيان اشتراكهما في كلّ جزء منه حتى تنافي ما يدلّ على اختصاص أوّل الوقت بالظهر.
وحيث إنّ اعتبار الترتيب بين الصلاتين كان أمراً بديهيّاً عند المسلمين، حتّى أنّ العامّة القائلين بتباين الوقتين ـ المستلزم لوقوع الثانية عقيب الاُولى قهراً ـ ذهبوا إلى اعتباره في موارد جواز الجمع، فلا يبقى مجال لتوهّم أن يكون قوله (عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان»(3) دالاًّ على دخول الوقتين بمجرّد الزوال، المستلزم لنفي اعتبار الترتيب، فلا يكون موهماً لخلاف
- (1) صحيح البخاري 1: 156 ح549.
- (2) المغني لابن قدامة 2: 112 ـ 120، المجموع 4: 308 ـ 322، وراجع أيضاً ما تقدّم في الصفحة السابقة، الهامش رقم 1.
- (3) تقدّم في ص134.
( صفحه 150 )
المقصود، بل التعبير بهذا النحو ـ بعد وضوح اعتبار الترتيب، ووضوح كون الغرض إبطال القول بتباين الوقتين ـ أحسن تعبير في بيان المرام، كما لا يخفى(1).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا محيص من الأخذ برواية داود بن فرقد(2)، والالتزام باختصاص أوّل الوقت بالظهر بمقدار أدائها بحسب حاله. نعم، سيجيء(3) معنى الاختصاص، وأنّه لا يلزم من القول به الحكم ببطلان صلاة العصر لو وقعت في أوّل الوقت مطلقاً، فانتظر.
هذا كلّه في اختصاص أوّل الوقت بالظهر.
وأمّا اختصاص آخر الوقت بالعصر، فلم ينقل من أحد منهم إنكاره، حتى أنّ الصدوق(4) القائل بالاشتراك في أوّل الوقت ذهب إلى الاختصاص في آخره.
ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى ذيل رواية داود بن فرقد، وصحيحة الحلبي المتقدّمتين(5) ـ صحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا طهرت الحائض قبل العصر صلّت الظهر والعصر، فإن طهرت في آخر وقت العصر صلّت العصر(6).
- (1) نهاية التقرير 1: 100 ـ 102.
- (2) تقدّمت في ص140.
- (3) في ص153 ـ 155.
- (4) تقدّم تخريجه في ص138 ـ 139.
- (5) في ص140.
- (6) تهذيب الأحكام 1: 390 ح1202، الاستبصار 1: 142 ح487، وعنهما وسائل الشيعة 2: 363، كتاب الطهارة، أبواب الحيض ب49 ح6.
( صفحه 151 )
والمناقشة في سند رواية الحلبي باعتبار اشتماله على ابن سنان ـ الظاهر في كونه هو محمد بن سنان; لروايته عن ابن مسكان، ورواية حسين بن سعيد عنه، وهو ضعيف(1) ـ مدفوعة بشهادة جمع بوثاقته، كالمفيد في الإرشاد(2)، وابن طاووس في محكيّ فلاح السائل(3)، والعلاّمة في الخلاصة(4)، والمجلسيّين(5)، ورجّح وثاقته صاحب الوسائل(6).
وقد ذكر بعض الأعلام ـ بعد المناقشة في روايتي داود والحلبي سنداً ودلالة، أو سنداً فقط ـ بأنّ تعيّن الإتيان بصلاة العصر فيما لو بقي من الوقت مقدار أربع ركعات وقد تركهما متعمّداً، إنّما هو لأجل أنّ المكلّف في هذه الصورة لم يعقل بقاء الأمر بثمان ركعات في حقّه; لعدم سعة الوقت للصلاتين، فلا يخلو إمّا أن يكون مأموراً بصلاة العصر فقط، أو بصلاة الظهر كذلك، أو يسقط الأمر بكلّ واحدة منهما، ويحدث أمر جديد بالتخيير، ولا يحتمل في حقّه سقوط الأمر بالصلاة رأساً; لأنّه خلاف الضرورة والإجماع.
والصورتان الأخيرتان ـ مضافاً إلى أنّهما خلاف المتسالم عليه عند الأصحاب ـ تنفيهما الأخبار الدالّة(7) على أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل الوقتان إلاّ أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 156 ـ 159.
- (2) الإرشاد للمفيد 2: 247 ـ 248.
- (3) فلاح السائل: 50 ـ 51، مقدّمة المؤلّف (قدس سره) .
- (4) خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: 394، الرقم 1591.
- (5) لوامع صاحبقراني 1: 250 و 473، وج5: 444 ـ 445، روضة المتّقين 1: 73، الوجيزة: 161، الرقم 1691.
- (6) وسائل الشيعة 30: 473 ـ 474.
- (7) تقدّمت في ص134 ـ 135.
( صفحه 152 )
الشمس; لدلالتها على أنّ الوظيفة في الصورة المفروضة هي الإتيان بصلاة العصر فقط; لاشتمالها على أنّ الوقت مشترك فيه بين الصلاتين بعد الزوال، والمكلّف في وقت من ثمان ركعات إلى أن تغرب الشمس، فإذا ضاق الوقت سقط الأمر بالأربع الاُولى لا محالة، وكان الوقت مختصّاً بالأربع الثانية; لقوله (عليه السلام) : «إلاّ أنّ هذه قبل هذه».
وبالجملة: الأخبار ظاهرة في أنّ الصلاتين منبسطتان على مجموع الوقت، «إلاّ أنّ هذه قبل هذه»، ومعه يختصّ الوقت بالأربع الثانية بالطبع; لأنّه مقتضى الانبساط والتقسيط(1).
ويرد عليه: أنّ دلالة أخبار الاشتراك على اختصاص مقدار الأربع الباقي بالعصر في الصورة المفروضة ممنوعة جدّاً; سواء كان المراد دلالتها بنفسها مع قطع النظر عن الاستثناء الوارد في بعضها بقوله (عليه السلام) : «إلاّ أنّ هذه قبل هذه»، أو كان المراد دلالتها بلحاظ اشتمالها على الاستثناء.
أمّا على التقدير الأوّل: فلأنّ مفاد أخبار الاشتراك ليس إلاّ اشتراك الصلاتين في جميع أجزاء الوقت، وعدم اختصاص واحدة منهما بقطعة منها أصلاً، بحيث لو لا الدليل على اعتبار الترتيب في صلاة العصر لَكُنّا نحكم بجواز الإتيان بها قبل الظهر في أوّل الوقت، وبجواز الإتيان بالظهر بعدها في آخر الوقت; لأنّ المفروض صلاحيّة كلّ جزء من أجزاء الوقت لكلّ واحدة من الصلاتين.
كما أنّ اعتبار الترتيب في ركعات كلّ صلاة أوجب تقدّم الركعة الاُولى
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 158.
( صفحه 153 )
على الثانية، وهكذا، وإلاّ فبلحاظ الوقت لا يكون فرق بين الركعات أصلاً. نعم، إذالم يؤت بهما إلى أن بقي مقدار ثمان ركعات يصير الوقت مضيّقاً، ولازمه وجوب المبادرة إلى الإتيان بكلتيهما.
وأمّا إذا بقى مقدار أربع ركعات، فلا وجه لتعيّن صلاة العصر بعد فرض الاشتراك، وظهور الرواية في انبساط الصلاتين على مجموع الوقت، إن كان مرجعه إلى الظهور في الاختصاص، فممنوع جدّاً; لأنّ الاشتراك في جميع الأجزاء لا يكاد يجتمع مع الاختصاص. وإن كان مرجعه إلى اعتبار الترتيب ـ فمضافاً إلى سقوطه في هذه الصورة; لعدم القدرة ـ يكون مقتضاه تعيّن الظهر دون العصر، كما هو واضح.
وأمّا على التقدير الثاني: فلأنّ مفاد الجملة المستثناة إمّا القبليّة من حيث الوقت، وإمّا القبليّة من جهة الترتيب، والأوّل يضادّ الاشتراك الذي هو مدّعى البعض(1)، والثاني لا يقتضي التعيّن إلاّ للظهر، كما عرفت.
تتمّة: في بيان معنى الاختصاص
وليعلم أنّه لم يرد في أيّ دليل لفظ الاختصاص حتّى يتكلّم في مفاده وينظر في مدلوله; لأنّ عمدة الدليل ما مرّ من الروايات الثلاثة المتقدّمة(2)الخالية عن هذا اللفظ. وعليه: فلابدّ من النظر في مفادها من هذه الجهة.
فنقول: إنّ المستفاد من رواية داود بن فرقد(3) هو عدم دخول وقت صلاة
- (1) كالسيّد الخوئي (قدس سره) المتقدّم آنفاً.
- (2) في ص140ـ150.
- (3) تقدّمت في ص140.