( صفحه 253 )الجنيد وجماعة على الثاني(1)، وتبعهم المتأخّرون قاطبة(2)، وقد أصرّ صاحب الحدائق(3) على إثبات قول الشيخين، خصوصاً بالإضافة إلى الظهرين.
ومنشأ الاختلاف هو اختلاف الأخبار الواردة في الباب، فكثيرة منها ظاهرة في كون الافتراق إنّما هو بالفضيلة والإجزاء، واستدلّ ببعضها على خلافه، ولابدّ من التعرّض لهذه الطائفة، وملاحظة تماميّتها من حيث السند والدلالة، أو عدمها وإن كان لا يترتّب على هذا البحث كثير فائدة; لأنّ الظاهر أنّ مراد القائل بعدم جواز التأخير عن الوقت الاختياري، هو عدم الجواز التكليفي وترتّب العصيان فقط; من دون أن يكون وقت الصلاة خارجاً بالتأخير بحيث يصير قضاءً بذلك، كما هو مقتضى الحرمة الوضعيّة.
فمراده هو ثبوت العصيان مع عدم ثبوت العقاب وعدم ترتّبه، كما نطقت به الأخبار الدالّة على أنّ آخر الوقت عفو الله(4)، فالتأخير في المقام إنّما يكون مشابهاً لنيّة المعصية التي هي معصية معفوّ عنها. وعليه: فلا يترتّب على هذا البحث ثمرة مهمّة فقهيّة، ولكنّه مع ذلك لا يخلو عن نتائج علميّة، فنقول:
من جملة الروايات التي استدلّ بها على ذلك صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ فيما رواه الكليني ـ قال: سمعته يقول: لكلّ صلاة وقتان،
- (1 ، 2) مسائل الناصريات: 192، 195 و 197، غنية النزوع: 71، السرائر 1: 196 ـ 197، المعتبر 2: 26، مختلف الشيعة 2: 31 مسألة 1، تذكرة الفقهاء 2: 300، مدارك الأحكام 3: 32، مفاتيح الشرائع 1: 88 ، كشف اللثام 3: 19 ـ 20، مفتاح الكرامة 5: 44 ـ 49، وحكي ذلك عن السيّد وابن الجنيد في أكثرها.
- (3) الحدائق الناضرة 6: 89 ـ 100.
- (4) تأتي في ص256.
( صفحه 254 )وأوّل الوقت أفضله، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلاّ في عذر من غير علّة(1).
بتقريب أنّها تدلّ على أنّ لكلّ صلاة وقتين، ولكلّ من الوقتين أوّل وآخر، وأوّلهما أفضلهما، وليس للمكلّف أن يجعل الوقت الثاني وقتاً للصلاة إلاّ من علّة تقتضيه، فذيل الرواية ظاهر بل صريح في أنّه ليس للمكلّف أن يؤخِّر الصلاة إلى الوقت الثاني إلاّ من علّة، فالواجب على المختار أن يأتي بها في الوقت الأوّل، الشامل لأوّله الذي هو أفضل، وآخره الذي لا يكون كذلك.
ويدفعه: أنّ دلالة الرواية على خلاف مطلوبه أظهر; لأنّ الظاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «وأوّل الوقت أفضله» هو أفضليّة الأوّل بالإضافة إلى الآخر الذي يكون هو الوقت الآخر، الذي دلّ على كليهما قوله (عليه السلام) : «لكلّ صلاة وقتان»، فمفاد الرواية أنّ لنا وقتين: يكون أحدهما ـ وهو الأوّل ـ أفضل من الآخر; وهو الآخِر.
ويؤيّد ذلك ـ مضافاً إلى كونه هو المتفاهم منه عرفاً ـ أنّه فيما رواه الكليني عن معاوية بن عمّار، أو ابن وهب أنّه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : لكلّ صلاة وقتان، وأوّل الوقت أفضلهما(2).
فإنّ تثنية الضمير الراجع إلى الوقتين، وإضافة الأفضل إليه ظاهرة في كون
- (1) الكافي 3: 274 ح3، تهذيب الأحكام 2: 39 ح124، الاستبصار 1: 244 ح870 ، وعنها وسائل الشيعة 4: 122، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب3 ح13.
- (2) الكافي 3: 274 ح4، تهذيب الأحكام 2: 40 ح125، الاستبصار 1: 244 ح871 ، وعنها وسائل الشيعة 4: 121، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب3 ح11.
( صفحه 255 )الطرف الآخر هو الوقت الآخر.
مع أنّ نفس هذه الرواية المستدلّ بها رواها الشيخ عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) هكذا: قال: لكلّ صلاة وقتان، وأوّل الوقتين أفضلهما، الحديث(1).
ومع هذا النقل لا يبقى مجال للترديد في كون المراد بيان وقت الفضيلة في مقابل وقت الإجزاء، وأنّ افتراق الوقتين إنّما هو بذلك.
وأمّا قوله (عليه السلام) : «وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً...» فقد عرفت أنّ الظاهر أنّ المراد به هو جعل الوقت الآخر وقتاً استمراريّاً للصلاة، بحيث لا يرى لها وقت ولو عملاً إلاّ آخر الوقت، ومن الواضح: أنّ ذلك إعراض عن السنّة وتهاون خارج عمّا هو محلّ البحث في المقام من التأخير العمدي لا بهذا الداعي، بل بغيره.
ويحتمل أن يكون المراد به ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) (2); وهو ترغيب الناس وتحريصهم إلى الإتيان بالصلوات في أوائل أوقاتها، ونظير ذلك كثير في الأخبار التي سيقت لبيان المستحبّات إذا كان المقصود الترغيب إلى الإتيان بمستحبّ مؤكّد، كما في المقام; حيث ورد فيه أنّ فضل الوقت الأوّل على الآخر، كفضل الآخرة على الدنيا(3)، ونظيره من التعبيرات الواردة
- (1) تقدّمت في ص247 ـ 248.
- (2) نهاية التقرير 1: 92 ـ 93.
- (3) الكافي 3: 274 ح6، تهذيب الأحكام 2: 40 ح129، ثواب الأعمال: 58 ح2، وعنها وسائل الشيعة 4: 123، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب3 ح15.
( صفحه 256 )في الأخبار(1).
مع أنّ اشتمال نقل الشيخ على تجويز التأخير لمن كان له شغل في عداد النوم والسهو والنسيان يؤيّد ما ذكرنا من عدم كون التأخير دائراً مدار الاضطرار; لأنّ الاشتغال بأحد المشاغل كيف يجوِّز التأخير وترك الصلاة في الوقت الاختياري المقرّر له؟ كما هو ظاهر.
ومنها: مرسلة الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام) : أوّله رضوان الله، وآخره عفو الله، والعفو لا يكون إلاّ عن ذنب(2).
وفيه: أنّ هذا القسم من المرسلات وإن كان معتبراً كما عرفت(3) مراراً، إلاّ أنّ الظاهر أنّ قوله (عليه السلام) : «والعفو...» لا يكون جزءاً من الرواية; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّه من دأب الصدوق مثل ذلك; من الإضافة إلى الرواية وجعل ما استنبطه واجتهده، أو ما يكون مربوطاً برواية اُخرى ضميمة إليها ـ لا يكون هذا الكلام مسانخاً لكلام الإمام (عليه السلام) ; لأنّه يشبه أمراً استنباطيّاً مأخوذاً من شيء آخر، والاستنباط من الإمام (عليه السلام) بالإضافة إلى الكتاب، أو كلام الرسول، أو كلام الإمام المتقدّم وإن كان ممّا لا مانع منه، إلاّ أنّه لا وجه للاستنباط من كلام نفسه، كما لا يخفى.
وكيف كان، فلم يثبت كون هذا ذيلاً للرواية وتتمّة لها حتّى يستفاد من عنوان الذنب عدم جواز التأخير في حال الاختيار، ومعه يصير معنى
- (1) وسائل الشيعة 4: 118 ـ 124، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب3.
- (2) الفقيه 1: 140 ح651، وعنه وسائل الشيعة 4: 123، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب3 ح16.
- (3) في ص70.
( صفحه 257 )الرواية: أنّ آخر الوقت عفو الله، وهذا لا يلازم ثبوت الذنب; لأنّ معناه: أنّ الصلاة في أوّل الوقت رضوان الله الذي وصفه الله في كتابه بأنّه «أكبر»(1)، وآخر الوقت موجب للعفو عن سائر المعاصي والسيِّئات، وهذه فضيلة ولكنّها لا تقاس بفضيلة أوّل الوقت. وعليه: فتكون هذه الرواية أيضاً دليلاً على امتداد وقت الإجزاء مطلقاً.
ومنها: رواية ربعي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّا لنقدّم ونؤخِّر، وليس كما يقال: من أخطأ وقت الصلاة فقد هلك، وإنّما الرخصة للناسي والمريض والمدنف(2) والمسافر والنائم في تأخيرها(3).
والاستدلال بها مبنيّ على أن يكون قوله (عليه السلام) : من أخطأ...» كلام الإمام (عليه السلام) الصادر لبيان الحكم وتوضيحاً للتقدّم والتأخّر المذكورين في الصدر، مع أنّ الظاهر كونه إلى آخر الرواية مقولاً لـ «يقال»، الذي نفاه الإمام (عليه السلام) بكلمة «ليس».
ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّه على مبنى الاستدلال يلزم أن يكون بلا مقول; وهو خلاف الظاهر ـ : أنّ من الواضح: ظهور الصدر في كون التقديم والتأخير إنّما هو في حال واحد; وهي حالة الاختيار، وعلى مبنى الاستدلال يلزم التفكيك; بأن يكون المراد هو التقديم في حال الاختيار، والتأخير في حال الاضطرار، وهو خلاف الظاهر جدّاً، فالرواية تنفي التفصيل بين حالتي
- (1) سورة التوبة 9: 72.
- (2) المدنف: من براه المرض حتّى أشفى على الموت، لسان العرب 2: 418.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 41 ح132، الاستبصار 1: 262 ح939، وعنهما وسائل الشيعة 4: 139، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب7 ح7.