(الصفحة 105)
ما عرفت هو قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» ، وهذه القاعدة إنّما يكون أثرها بالمقدار الذي يكون بضرر المقرّ ، وأمّا من الحيثيّة الراجعة إلى نفع المقرّ له فلا دلالة للقاعدة عليه .
وبالجملة : إقرار المقرّ بنفع المدّعي له حيثيّتان :
حيثيّة سلبيّة راجعة إلى عدم كون المقرّ به للمقرّ ، وهي مدلول الإقرار الإلتزامي .
وحيثيّة إيجابيّة راجعة إلى كونه للمقرّ له وهو المدلول المطابقي ، وقاعدة الإقرار إنّما تكون جائزة من الحيثيّة الاُولى لا من الحيثيّتين ، ويؤيّده أنّ المقرّ ربّما لا يكون عادلا ، وعلى تقديره لا يكون أزيد من واحد حتّى يتحقّق عنوان البيّنة المتقوّم بالعدالة والتعدّد ، ويؤيّده أيضاً أنّه ربّما يكون في الواقع التباني بين المقرّ والمقرّ له مع عدم كون المستحقّ واحداً منهما ، كما إذا أقرّ مستأجر الدار مثلا بملكيّة زيد لها مع كون المالك هو عمراً ، وعليه فكيف يتحقّق فصل الخصومة من الحاكم بنفع المقرّ له بمجرّد إقرار المقرّ ـ المدّعى عليه ـ وما يكون مستنده في ذلك؟
وقد أشار إلى ما ذكرنا المحقّق العراقي (قدس سره) في رسالته في القضاء ، حيث قال في العين ـ في مقابل الدين ـ : أيضاً يحكم بملكيّتها للمقرّ له ، لكن لا من جهة إقراره ، حيث إنّه لا يكون نافذاً إلاّ في نفي ملكيّة المال عن نفسه ، بل إنّما هو بملاك اقتضاء اليد نفي ملكيّته لغير المقرّ له أيضاً; ولذا يصير المقرّ له في دعوى غيره عليه بمنزلة ذي اليد ، فيقدّم قوله بيمينه ، ولكن في كون أمثال هذا مناطاً للفصل إشكال ، بل ما هو مناط الفصل هو إقراره بما اقتضت حجّيته ، وهو نفي ملكيّته عن نفسه لا ملكيّته لغيره ، ومن هذه الجهة نقول : إنّ حكم الحاكم في مثل هذه الصورة لا يقتضي إلاّ فصل الخصومة بينهما بحيث لا تسمع الدعوى من المقرّ ، ولا يقتضي عدم سماعه من
(الصفحة 106)مسألة 3 : الحكم إنشاء ثبوت شيء أو ثبوت شيء على ذمّة شخص أو الإلزام بشيء ونحو ذلك ، ولا يعتبر فيه لفظ خاصّ ، بل اللاّزم الإنشاء بكلّ ما دلّ على المقصود ، كأن يقول : قضيت أو حكمت أو ألزمت ، أو عليك دين فلان ، أو هذا الشيء لفلان ، وأمثال ذلك من كلّ لغة كان ، إذا أريد الإنشاء ودلّ اللّفظ بظاهره عليه ولو مع القرينة1.
مدّع آخر ، وذلك أقوى شاهد على أنّ محطّ حكم الحاكم في مقام الفصل ليس هو الملكيّة للمقرّ له ، كيف ولازمه حرمة ردّه بالنسبة إلى كلّ أحد ، ولازمه عدم سماع الدعوى حتّى من غير المقرّ ، وعدم اختصاص الفصل المنتزع عن حرمة الردّ بالمقرّ وحده ، وهو كما ترى لم يلتزم به أحد(1) . انتهى موضع الحاجة .
أقول : الظاهر أنّ جواز أخذ المقرّ به للمقرّ له إنّما هو في صورة كونه عالماً جازماً بأنّ المال له ، وأمّا في صورة عدم العلم والجزم فيشكل الجواز بالإضافة إليه أيضاً; لأنّ قاعدة الإقرار لا تدلّ على ذلك ، وشهادة الواحد ولو كان عادلا غير مؤثّرة ، فلا يجوز له الأخذ بمجرّد الإقرار ، بل يكون أمانة عند الحاكم حتّى يظهر صاحبها ، كما لايخفى .
1 ـ لا ينبغي الارتياب في أنّ الحكم من مقولة الإنشاء ، سواء قلنا : بأن القضاء عبارة عن خصوص رفع التنازع والتخاصم كما عليه الماتن (قدس سره) تبعاً للمشهور ، أو بأنّ معناه يشمل مثل الحكم بالهلال كما عرفت من الدروس(2) . والإنشاء في مقابل الإخبار عبارة عن إيجاد ما لا يكون موجوداً لا بالوجود الحقيقي الخارجي أو
- (1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي : 73 ـ 74 .
- (2) الدروس الشرعيّة : 2 / 65 .
(الصفحة 107)مسألة
4 : لو التمس المدّعي أن يكتب له صورة الحكم أو إقرار المقرّ ، فالظاهر عدم وجوبه ، إلاّ إذا توقّف عليه استنقاذ حقّه ، وحينئذ هل يجوز له مطالبة الأجر أم لا؟ الأحوط ذلك وإن لا يبعد الجواز ، كما لا إشكال في جواز مطالبة قيمة القرطاس والمداد ، وأمّا مع عدم التوقّف فلا شبهة في شيء منها ،
الذهني ، بل بالوجود المناسب له كإيجاد البيع أو النكاح أو فصل الخصومة ، وإن كان كلّ ذلك أمراً اعتباريّاً لا واقعيّة له غير الاعتبار ، بخلاف الإخبار الّذي معناه الحكاية عن الأمر المتحقّق الماضي ، أو عن الأمر الذي سيوجد في المستقبل بعلله; فقوله : «بعت داري» إن كان المقصود به الإنشاء ، يكون المراد به إيجاد البيع بهذا اللّفظ ، وإذا كان المقصود به الإخبار ، يكون المراد الحكاية عن البيع المتحقّق في الزّمان الماضي . ويظهر من المتن أنّه يُعتبر في المقام أمران :
أحدهما : أن يكون واقعاً باللفظ ، غاية الأمر أنّه لا يعتبر فيه لفظ خاصّ ، بل اللاّزم الإنشاء بكلّ ما دلّ على المقصود من كلّ لغة كان ، ويرد عليه ـ بعد ملاحظة جريان المعاطاة في مثل البيع ، وإن كان جريانها في النكاح محلّ إشكال بل منع ـ أنّه لِمَ لا تجري المعاطاة في الحكم ، مثل أن يأخذ الحاكم المال المدّعى به من المدّعى عليه ، ويدفعه إلى المدّعي الذي أقام البيّنة على طبق ادّعائه ، أو يفطر صومه في اليوم المشكوك مع ظهور كون إفطاره لأجل ثبوت الهلال عنده ، اللّهم إلاّ أن يكون هنا إجماع على خلافه ، أو يقال : بقلّة الموارد المذكورة ، مع أنّه في مثل الدين لا تجري المعاطاة بوجه فتدبّر .
ثانيهما : كون اللّفظ ظاهراً في معناه ، ولو لم يكن على سبيل الحقيقة مثل رأيت أسداً يرمي الظاهر في الرجل الشجاع بمعونة القرينة ، وإن كان الاستعمال مجازيّاً ، ضرورة أنّ أصالة الظهور أعمّ من أصالة الحقيقة لو كانت ، كما لايخفى .
(الصفحة 108)ثمّ إنّه لم يكتب حتّى يعلم اسم المحكوم عليه ونسبه على وجه يخرج عن الاشتراك والإبهام ، ولو لم يعلم لم يكتب إلاّ مع قيام شهادة عدلين بذلك ، ويكتب مع المشخّصات النافية للإيهام والتدليس ، ولو لم يحتج إلى ذكر النسب وكفى ذكر مشخّصاته اكتفى به1.
1 ـ هل كتابة الحكم مع ثبوت وجوبه واجبة أم لا؟ نسب الأوّل إلى الأشهر(1) ، ولكنّ الظاهر عدم وجوبها إلاّ إذا توقّف عليها استنقاذ حقّه ، الذي تكون هي الحكمة في إيجابه على القاضي كفاية أو عيناً ، كما تقدّم ، ولا إشكال في جواز مطالبة قيمة القرطاس والمداد في هذه الصّورة ، وأمّا بالإضافة إلى أصل كتابة الحكم ففيه إشكال ، وإن نفى البعد عن الجواز في المتن; نظراً إلى عدم وجوب الكتابة في هذه الصورة أيضاً ، وعلى تقديره فلا دليل على عدم جواز أخذ الاُجرة على الكتابة ، وحرمة أخذ الاجرة على أصل الحكم لا تلازم الحرمة على الكتابة .
وعن المستند للنراقي حرمة أخذ الاجرة والقيمة على القرطاس والمداد; نظراً إلى أنّهما من مقدّمة الواجب ومقدّمة الواجب واجبة والواجب لا يجوز أخذ الاُجرة عليه(2) . ويرد عليه منع الصغرى والكبرى معاً ، فإنّ مقدّمة الواجب لا تكون واجبة بالوجوب الشرعي ، وإن كان غيريّاً كما حقّقناه في الأصول ، ولم يرد دليل على حرمة أخذ الاُجرة على الواجب بنحو الكلّي ، كما حقّقناه في كتابنا في القواعد الفقهيّة(3) ، وقد أورد عليه السيّد في الملحقات بأنّ الكتابة نظير تكفين الميّت حيث إنّه واجب بشرط وجود الكفن ، ولا يلزم دفع الكفن على من وجب
- (1) مسالك الأفهام : 13 / 416 .
- (2) مستند الشيعة : 2 / 546 (ط ق) .
- (3) القواعد الفقهيّة : 1 / 509 ـ 533 .
(الصفحة 109)مسألة 5 : لو كان المقرّ واجداً اُلزم بالتأدية ، ولو امتنع أجبره الحاكم ، وإن ماطل وأصرّ على المماطلة جازت عقوبته بالتغليظ بالقول حسب مراتب الأمر بالمعروف ، بل مثل ذلك جائز لسائر النّاس ، ولو ماطل حبسه الحاكم حتّى يؤدّي ما عليه ، وله أن يبيع ماله إن لم يمكن إلزامه ببيعه ، ولو كان المقرّ به عيناً يأخذها الحاكم ، بل وغيره من باب الأمر بالمعروف ، ولو كان ديناً أخذ الحاكم مثله في المثليّات وقيمته في القيميّات بعد مراعاة مستثنيات الدين ، ولا فرق بين الرجل والمرأة فيما ذكر1.
عليه التكفين(1) .
ثمّ اللاّزم في الكتابة ذكر اسم المحكوم عليه ونسبه على وجه يخرج عن الاشتراك والإبهام ، ولو مع قيام البيّنة بذلك في صورة عدم العلم ، ويكفي ذكر المشخّصات النافية للإبهام والتدليس المعبّر عنها في كلام الشرائع وغيرها بالحلية(2); لعدم الدليل على خصوص الاسم والنسب ، كما لايخفى .
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة في مقامات :
المقام الأوّل : قد عرفت أنّ المقرّ به إن كان عيناً في يد المقرّ ـ أي المدّعى عليه ـ فمع عدم علم الحاكم بكونها للمدّعي لا يترتّب على إقرار المحكوم عليه إلاّ مجرّد جهة سلبيّته ، وإن كانت مدلولا التزاميّاً لاقرار المقرّ ، ولا يترتّب عليه جواز الحكم بكونها للمدّعي; لعدم صلاحيّة مجرّد الإقرار لاثبات ذلك ، وإن كان ديناً لا يكون
- (1) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 50 مسألة 4 .
- (2) المبسوط : 8 / 115 ، شرائع الإسلام : 4 / 873 ، مسالك الافهام : 13 / 444 ، مختلف الشيعة : 8 / 442 مسألة 43 .