(الصفحة 23)مسألة 3 : يستحبّ تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه ، والأولى تركه مع وجود من به الكفاية; لما فيه من الخطر والتّهمة1.
وجود من به الكفاية بسبب اختيار المترافعين أو الناس فلم يقم عليه دليل ، كما لايخفى .
1 ـ في هذه المسألة
أمران :
الأمر الأوّل : الدليل على الاستحباب في الصورة المذكورة في المتن ، وهو مضافاً إلى كونه من مصاديق إقامة العدل والإحسان المأمور بها عقلا وشرعاً روايات :
منها : رواية سلمة بن كهيل المشتملة على وصيّة عليّ (عليه السلام) لشريح القاضي والمتضمّنة لقوله (عليه السلام) : وإيّاك والتضجّر والتأذي في مجلس القضاء ، الذي أوجب الله فيه الأجر ، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ(1) .
وفي سلمة وإن كان ضعفاً كما صرّح به المحقّق في الشرائع(2) ، إلاّ أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن الثابتة في الاُصول جارية هنا .
ومنها : الروايات الكثيرة الواردة في الحكم بإقامة الحدّ المذكورة في الوسائل في أبواب مقدّمات الحدود الدالّة على رجحانه(3) .
وفي بعضها : أنّ المراد بقول الله عزّوجلّ :
{يُحي الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا}(4) ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء
- (1) الكافي : 7 / 412 ح1 ، الوسائل : 27 / 211 ، أبواب آداب القاضي ب1 ح1 .
- (2) شرائع الإسلام : 4 / 1052 .
- (3) الوسائل : 28 / 11 ، أبواب مقدّمات الحدود وأحكامها ب1 .
- (4) سورة الحديد 57 : 17 .
(الصفحة 24)
العدل ، ولإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً(1) .
وكيف كان فلا شبهة نصّاً وفتوىً في أصل الاستحباب المذكور .
الأمر الثاني : أنّه كيف يجمع بين هذا الاستحباب وبين الحكم بوجوب القضاء كفايةً أو عيناً كما تقدّم ، مع أنّ المتعلّقين واحد ، ولابدّ في ثبوت حكمين من تغاير المتعلّقين . فإنّه وإن لم يكن بين الأحكام الخمسة التكليفيّة تضادّ اصطلاحاً ، كما حقّقناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من المباحث الأصوليّة ، خلافاً للمحقّق الخراساني (قدس سره) ، الذي جعل إحدى مقدّمات الامتناع بل أهمّها التضادّ بينها(2) ، والوجه فيه : أنّه من عوارض الوجود المتأصل ولو بالعرض ، والأحكام اُمور اعتباريّة محضة; ولذا لا يمكن اجتماع السواد والبياض في جسم واحد ولو كان من ناحية شخصين ، واجتماع الأحكام كذلك من الموالي المتعدّدة بالنسبة إلى عبيدهم أمر ممكن ، وإن كان المتعلّق طبيعة واحدة لا زيادة فيها ولا نقيصة ، وهو واضح جدّاً ، إلاّ أنّه لا يكاد ينكر امتناع اجتماع حكمين على طبيعة واحدة بملاك آخر ، وفي المقام لابدّ في الجمع بين الحكمين من الالتزام بثبوت المغايرة بين المتعلّقين فنقول :
ذكر السيّد (قدس سره) في ملحقات العروة : أنّه يمكن أن يجاب عن الإشكال بأنّ المراد من استحبابه العيني استحباب المبادرة إليه والمسابقة على الغير ، فيختلف موضع الحكمين(3) .
لكنّه أورد عليه بأنّه يبقى إشكال آخر وهو أنّه كيف يعقل استحباب المبادرة من كلّ أحد عيناً ، مع كونه واحداً لا يقبل التكرار ، بل لا يتصوّر استحباب مثله عيناً
- (1) الكافي : 7 / 174 ح2 ، التهذيب : 10 / 146 ح578 ، الوسائل : 28 / 12 ، أبواب مقدّمات الحدود ب1 ح3 .
- (2) كفاية الاُصول : 193 .
- (3) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 4 مسألة 6 .
(الصفحة 25)مسألة 4 : يحرم الترافع إلى قضاة الجور ـ أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء ـ فلو ترافع إليهم كان عاصياً ، وما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً ، وفي العين إشكال إلاّ إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم ، فلايبعد جوازه سيّما إذا كان في تركه حرج عليه ، وكذا لو توقّف ذلك على الحلف كاذباً جاز1.
وإن لم يكن وجوب .
أقول : حيث إنّ في القضاء بمعنى فصل الخصومة ورفع التّنازع أموراً ثلاثة مترتّبة : تحصيل الولاية الموجبة لجعل منصب القضاوة له بمقتضى المقبولة والصحيحة ، وسماع الدّعوى ، والنظر في أدلّة الطرفين من البيّنة واليمين وغيرهما ، وفصل الخصومة ورفع التنازع لابدّ في الحكم بالتغاير بين المتعلّقين من جعل أحدهما متعلّقاً للوجوب ، والآخر متعلّقاً للاستحباب ، وإن كان في بعضها نظر .
1 ـ في هذه المسألة جهات من البحث :
الاُولى : حرمة الترافع إلى قضاة الجور ، وقد فسّرهم بمن لم تجتمع فيهم شرائط القضاء ، مع أنّ إطلاق قاضي الجور على كلّ من لا تجتمع فيهم الشرائط ممنوع جدّاً ، فإنّ المجتهد الشيعي غير الواجد لشرطيّة العدالة هل يكون قاضي الجور ، ولو علم عدم عدالته ، وحتى فيما رأى نفسه كذلك مع أنّ استعمال ضمير الجمع عقيب كلمة «من» لا يكون متداولا وإن فرضت صحّته .
وكيف كان فالدليل على الحرمة إنّما هو بالإضافة إلى قضاة الجور; لأنّه مصداق قوله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ}(1) . وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فلا دليل على الحرمة إلاّ من طريق عدم القول بالفصل أو
(الصفحة 26)
عدم الفصل ، وإلاّ فحرمة الترافع إلى قضاة الجور ، الذين هم حماة سلطان الجور ومن أياديهم وسبب لتداوم حكومتهم باعتبار أنّ الاجتماع يحتاج إلى التشكيلات القضائيّة ، لا يلازم حرمة الترافع إلى كلّ من لا يكون واجداً لشرائط القضاء ، كما هو واضح لا يخفى .
الثانية : حرمة ما أخذ بحكمهم وإن كان حقّاً ، كما قد صرّح بها في المقبولة المتقدّمة معلّلا بقوله : لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفَر به(1) ، ولا إشكال في ذلك فيما إذا كان المأخوذ ديناً ، كما إذا ادّعى زيد ديناً له على عمرو وترافعا ، وحكم الطاغوت بثبوت الدين ، وكان الأمر في الواقع كذلك ، فإنّ الدين المأخوذ حينئذ حرام وسحت ، وإن كان القاضي محقّاً في قضاه والمدّعي صادقاً في ادعائه; لأنّ تعيّن الدين وصيرورة ما في الذمّة متعيّناً في الخارج صار بسبب حكم الطاغوت وعدم رضاية المديون . وهذا لا يوجب التعيّن بوجه ، فالتصرّف فيه تصرّف في مال الغير بغير رضاه .
وأمّا إذا كان المأخوذ عيناً خارجيّاً كان في الواقع ملكاً للآخذ مثله ، فقد استشكل في حرمته في المتن من أنّ مقتضى إطلاق المقبولة سيّما بملاحظة إطلاق السؤال ، وترك الاستفصال في الجواب عدم الاختصاص بالدين ، بل الشمول للعين التي هي مورد الترافع والتنازع غالباً ، فاللازم حينئذ الحكم بالحرمة .
ومن أنّ حكم الحاكم ولو كان من قضاة الجور لا يكون حينئذ إلاّ بمنزلة رفع ما يمنع عن تصرّف المالك في ماله وجعله في اختياره ، فإنّ المالك معلوم ولو لنفسه والملك المتعيّن الخارجي معلوم ، ولم يكن هناك إلاّ المانع الذي ارتفع بسبب حكم
- (1) الوسائل : 27 / 136 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
(الصفحة 27)
الحاكم ولو كان من قضاة الجور ، وإن لم يتوقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم .
والظّاهر أنّ الالتزام بذلك فيما إذا لم يتوقّف الاستيفاء عليه مشكل . نعم في صورة التّوقف سواء كان حرجيّاً أم لم يكن كذلك لا إشكال فيه . أمّا في صورة الحرج فلدليله الظّاهر في أنّ الله ما جعل عليكم في الدين من حرج(1) لا في خصوص العبادات ومثلها . فدليل نفي الحرج كما أنّه حاكم على الأدلّة الأوّلية في باب العبادات يكون حاكماً عليها في مثل المقام . وأمّا في غير صورة الحرج فلأنّ مورد المقبولة وغيرها إمكان الترافع إلى غير قضاة الجور; ولذا جعل الحكومة والقضاء للأفراد الخاصّة ، والظاهر أنّه في صورة انحصار الطريق بالترافع إلى قضاة الجور لا مانع من الاستيفاء ولو لم يكن حرجيّاً ، فتدبّر .
الثالثة : جواز الحلف كاذباً لو توقّف عليه استيفاء الحقّ في غير باب القضاء ، والدليل عليه الروايات الكثيرة الواردة في هذا المجال :
مثل : صحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : نمرّ بالمال على العشّار ، فيطلبون منّا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منّا إلاّ بذلك ، قال : فاحلف لهم فهو أحلّ من الّتمر والزّبد(2) .
وصحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري ، عن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام) في حديث قال : سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف ، قال : لا جناح عليه . وعن رجل يحلف على ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه ، قال : لا جناح عليه . وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله؟ قال :
- (1) إقتباس من سورة الحج 22 : 78 .
- (2) الفقيه : 3 / 230 ح1083 ، نوادر أحمد بن محمد بن عيسى : 72 ح152 ، الوسائل : 23 / 225 ، كتاب الأيمان ب12 ح6 .