(الصفحة 83)السّابع : أن يكون للمدّعي طرف يدّعي عليه ، فلو ادّعى أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فعلا لم تسمع ، كما لو أراد إصدار حكم من فقيه يكون قاطعاً للدعوى المحتملة ، فإنّ هذه الدعوى غير مسموعة ، ولو حكم الحاكم بعد سماعها ، فإن كان حكمه من قبيل الفتوى ، كأن حكم بصحّة الوقف الكذائي أو البيع الكذائي فلا أثر له في قطع المنازعة لو فرض وقوعها . وإن كان من قبيل
ملكاً أيضاً ، فمضافاً إلى أنّ لازمه المسموعيّة فيما إذا كان للكلام ظهور في الملكيّة ، كما أنّها مقتضى اللاّم أحياناً . يرد عليه أنّه لا دليل على اعتبار الملكيّة أيضاً ، ولا يدّعيها المدّعي ، بل منشأ دعواه في بعض الموارد ثبوت حقّ الاختصاص له ، وحينئذ فلم يعلم وجه للتردّد بين كونه ممّا لا تسمع دعواه أم لا ، فالإنصاف أنّه لا دليل على البطلان في الفرض الأوّل .
وأمّا الفرض الثاني فهو أولى بالصحّة لمعلوميّة المدّعى به بوجه ، وحينئذ فإن لم يكن الحكم بنفعه فبها ، وإن كانت المحاكمة منتهية بنفعه وفصل الخصومة على طبق ما ادّعاه ، فلا يثبت بالحكم في هذه الدعوى أزيد ممّا ادّعاه ، بل بعد الحكم يطالب المدّعى عليه بالتفسير ، فإن فسّر بما رضي به المدّعي فهو ، وإلاّ فهو دعوى اُخرى تحتاج إلى محاكمة جديدة ، وإن لم يفسّر أصلا لجهالته مثلا ، فإن كان المدّعى به مردّداً بين أشياء محدودة لا محيص إلاّ عن القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل .
وفي صورة الإقرار بالتلف وعدم منازعة الطرف ، فإن تحقّق التوافق بالإضافة إلى القيمة التي تحقّق الانتقال إليها بعد التلف فبها ، وإلاّ فمع الاختلاف في الزيادة والنقيصة يكون القدر المتيقّن هو الأقلّ ، وبالنسبة إلى الزيادة تكون هنا دعوى اُخرى مسموعة بوجود شرائط السّماع فيها ، وهذا لا فرق بين أن يكون الملاك قيمة يوم التلف ، أو يوم الأداء ، أو أعلى القيم ، كما لايخفى .
(الصفحة 84)أنّ لفلان على فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما ، فهذا ليس حكماً يترتّب عليه الفصل وحرمة النقض ، بل من قبيل الشهادة . فإن رفع الأمر إلى قاض آخر يسمع دعواه ، ويكون ذلك الحاكم من قبيل أحد الشهود ، ولو رفع الأمر إليه وبقي على علمه بالواقعة له الحكم على طبق علمه1.
1 ـ لا خفاء في أنّ رفع التنازع وفصل الخصومة يفتقر إلى أن يكون هنا شخصان متنازعان ، فلو ادّعى أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فعلا فيها ، لم تسمع كما في المثال المذكور في المتن ، فإنّه لا يجب على الحاكم سماع هذه الدعوى . نعم لو حكم الحاكم بعد سماعها ، فإن كان حكمه من قبيل الفتوى فلا أثر له في قطع المنازعة الآتية; لأنّه بالفعل لا يكون تنازع في المستقبل ، وإن تحقّقت المنازعة فرضاً ، إلاّ أنّ صرف الفتوى التي هي بيان الحكم الكلّي والكبرى التامّة لا يكفي في رفع المخاصمة المتحقّقة في القضايا الشخصيّة ، وإن ذكرنا فيما سبق أنّه قد يكون منشأ الاختلاف بين المدّعي والمنكر اختلاف النظر فيمن يرجع إليه للتقليد ، وذكرنا أيضاً أنّ الحاكم يقضي على طبق نظره ورأيه ، إلاّ أنّه لا إشكال في أن الفتوى أمر والقضاء أمر آخر ، ولا يكفي الأوّل لرفع الخصومة والفصل ، وعليه فمجرّد الفتوى لا أثر له في قطع المنازعة والمخاصمة ، وإن قلنا بمقالة الشهيد في الدروس في تفسير القضاء وتعريفه من شموله للولاية على الحكم في المصالح العامّة أيضاً(1); كالحكم بثبوت الهلال على خلاف ما ذكرناه سابقاً .
وإن كان حكمه من قبيل أنّ لفلان على فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما ، فهذا لا يكون حكماً يترتّب عليه الفصل وحرمة النقض ، بل هو من قبيل الشهادة ، فإن
- (1) الدروس الشرعيّة : 2 / 65 .
(الصفحة 85)الثامن : الجزم في الدّعوى في الجملة ، والتفصيل أنّه لا إشكال في سماع الدعوى إذا أوردها جزماً ، وأمّا لو ادّعى ظنّاً أو احتمالا ففي سماعها مطلقاً أو عدمه مطلقاً ، أو التفصيل بين موارد التّهمة وعدمها بالسماع في الأوّل ، أو التفصيل بين مايتعسّر الاطلاع عليه كالسرقة وغيره فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعارف الخصومة به ـ كما لو وجد الوصيّ أو الوارث سنداً أو دفتراً فيه ذلك ، أو شهد به من لا يوثق به ـ وبين غيره فتسمع في الأوّل ، أو التفصيل بين موارد التّهمة وما يتعارف الخصومة به ، وبين غيرهما فتسمع فيهما وجوه ، الأوجه الأخير ، فحينئذ لو أقرّ المدّعى عليه أو قامت البيّنة فهو ، وإن حلف المدّعى عليه سقطت الدعوى ، ولو ردّ اليمين لا يجوز للمدّعي الحلف ، فتتوقّف الدعوى . فلو ادّعى بعده جزماً أو عثر على بيّنة ورجع إلى الدعوى تسمع منه1.
رفع الأمر بعد تحقّق التنازع إلى قاض آخر تسمع دعواه ، ويكون حكم ذلك الحاكم من قبيل شهادة أحد الشاهدين ، وإن رفع الأمر بعده إلى نفسه ، فإن كان عالماً بالواقعة فعلا فله الحكم على طبق علمه ، وإلاّ يستأنف كما لا يخفى .
1 ـ المشهور على اعتبار الجزم في الدعوى في سماعها مطلقاً ، وأنّه لا تسمع الدعاوى الظنّية والاحتماليّة أصلا(1) ، وعن جماعة عدم اعتباره مطلقاً(2) ، وعن بعض التفصيل بين الظنّية والاحتماليّة بالسماع في الأوّل دون الثاني(3) ، وهنا
- (1) كفاية الأحكام : 266 (ط ق) .
- (2) إيضاح الفوائد : 4 / 327 ـ 328 ، مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 124 ـ 126 .
- (3) شرائع الإسلام : 4 / 872 ، وقال في الروضة البهيّة : 3 / 80 : بالسماع فيما يعسر عليه ، وأورد جميع هذه الأقوال الشيخ الأنصاري في القضاء والشهادات ، (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 171 ـ 172 .
(الصفحة 86)
تفصيلات اُخر مذكورة في المتن ، وبعضها غير مذكور فيه أيضاً .
واستدلّ للمشهور بأنّ المتبادر من الدعوى ما كان بنحو الجزم ، ويدفعه منع ذلك ، ويدلّ عليه التقسيم إلى الجزمي وغيره من الظنّي والاحتمالي ، وأجاب عنه السيّد في ملحقات العروة ثانياً بأنّه يكفي صدق المخاصمة والمنازعة ، فيشمله العمومات ، مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على المدّعي(1) وقوله (صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي(2) الخ ، وقوله (عليه السلام) : استخراج الحقوق بأربعة . . .(3) ،(4) .
وفيه : أنّ القول الأخير محكيّ في مرسلة يونس المضمرة عمّن رواه ، قال : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي ، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه . الحديث .
وأنت خبير باشتمالها على عنواني المدّعي والمدّعى عليه ، فالعمدة هو الجواب الأوّل .
واستدلّ لهم أيضاً بأنّ لازم السماع القضاء بالنكول ، أو يمين المدّعي في صورة عدم الإقرار والبيّنة ، وكلاهما مشكل; لعدم جواز أخذ المدّعى به مع عدم علمه بالمدّعى به وإنكار المدّعى عليه ، واحتمال كون نكوله عن الحلف للتعظيم ونحوه ، وكذا عدم جواز حلف المدّعي بدون العلم .
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 234 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 ح5 .
- (2) وسائل الشيعة : 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
- (3) الكافي : 7 / 416 ح3 ، التهذيب : 6 / 231 ح562 ، الوسائل : 27 / 241 ، أبواب كيفيّة الحكم ب7 ح4 وص271 ب15 ح2 .
- (4) ملحقات العروة : 3 / 42 .
(الصفحة 87)
ويرد عليه أنّ غايته أنّه لا يردّ اليمين على المدّعي مع عدم العلم والجزم ، ولكن لم يقم دليل على أنّ السّماع إنّما يتوقّف على جواز حلف المدّعي ، فمن الممكن عدم الردّ في هذه الصّورة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
هذا ولكنّ الظاهر هو التفصيل الأخير الذي جعله الماتن (قدس سره) أوجه الوجوه .
أمّا في موارد التهمة فلدلالة الأخبار الكثيرة على استحلاف الأمين مع التهمة ، كقوله (عليه السلام) : لا يضمّن القصّار إلاّ ما جنت يداه ، وإن اتّهمته أحلفته(1) . وغير ذلك من الروايات المتعدّدة . وموردها وإن كان صورة تحقّق اليد المقتضية للضمان ، إلاّ أنّه يستفاد منها جواز الاحلاف مع التهمة مطلقاً ، وإن لم يكن هناك يد كبعض الدعاوى في المقام .
وأمّا الموارد التي يتعارف فيها الخصومة بغير الجزم أيضاً كالأمثلة المذكورة في المتن ، فلصدق عنوان المخاصمة والتنازع بحسب نظر العرف والعقلاء ، ولذا يكون المتعارف فيها الخصومة .
ثمّ إنّ السماع في الفرضين لا يوجب جواز الحلف للمدّعي في صورة ردّ المدّعى عليه ، بل اللاّزم إمّا القول بتوقّف الدعوى وانتظار تحقّق الجزم ، أو حصول البيّنة كما في الدعوى على الصّبيّ ، الذي يبلغ لا محالة على فرض البقاء ، والغائب الذي يصير حاضراً نوعاً . وإمّا القول بعدم تماميّة الدعوى بحلف المدّعي ، بل هي تتمّ بنكول المنكر عن الحلف ، وبطلان مقايسة المقام مع الدعوى على الصغير والغائب; لأنّ لهما أمداً يرتقب وينتظر بخلاف المقام ، فإنّه من الممكن عدم حصول الجزم وعدم تحقّق البيّنة ، فالظاهر حينئذ التماميّة بنكول المنكر ، كما ربّما يدلّ عليه الأخبار
- (1) التهذيب : 7 / 221 ح967 ، الاستبصار : 3 / 133 ح481 ، الوسائل : 19 / 146 ، كتاب الإجارة ب29 ح17 .