(الصفحة 329)حكم الحاكم بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين1.
1 ـ إنهاء حكم الحاكم بعد فرض الإنشاء الصحيح ـ سواء كان باللفظ بناءً على الاختصاص به أو بغيره بناءً على جوازه ، كما عرفت في ذيل المسألة الاُولى ـ بأحد أمور الثلاثة .
وليعلم ـ قبل التعرّض لهذه الاُمور ـ أنّ الغرض من الإنهاء كما أشار إليه المحقّق في الشرائع أنّ الحاجة قد تمسّ إليه; لأن احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب ، وتكليف شهود الأصل بالانتقال إلى تلك البلاد متعذّر أو متعسّر ، فلابدّ من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء ، ولا وسيلة إلاّ رفع الأحكام إلى الحكّام ، ولأنه لو لم يشرع إنهاء الاحكام بطلت الحجج مع تطاول المُدد ، ولأنّ المنع من ذلك يؤدّي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة ، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر ، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأوّل اتصلت المنازعة ، وغير ذلك من الفوائد(1) .
كما أنّه ينبغي ـ قبل التعرّض لتلك الأمور الثلاثة ـ بيان أصل أصّله صاحب الرياض ، وحكى في الجواهر أنّه قد بنى عليه كثيراً من مسائل هذا الفصل ، ولخّصه في أنّ قضاء التنفيذ قسم آخر من القضاء ، غير أصل القضاء بالواقعة بموازينها المقرّرة شرعاً ، وهي: البيّنة والأيمان ، بخلاف الحكم بحكم الأوّل الذي هو من القول بغير علم ، بل لعلّه مناف لرأي الحاكم الآخر ، واقصى ذلك عدم جواز نقضه ، لا تنفيذه بمعنى إنشاء حكم منه على المحكوم عليه أوّلا بحكم الأوّل، حتى لو كان حاضر الإنشاء فضلا عن ثبوته بالكتاب أو الإخبار أو البيّنة ، إلاّ أنّه خرج ما
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
(الصفحة 330)
خرج بالإجماع وبقي غيره على الأصل(1) .
وأورد عليه في الجواهر بما يرجع إلى أنّه يمكن استفادة قضاء التنفيذ من أدلّة أصل القضاء ، التي منها: «جعلته حاكماً وحجّة كما أنا حجّة»(2)، ونحو ذلك ممّا يشمل القضاء التنفيذي أيضاً ، واحتمال كون المراد من ذلك عدم نقضه لا إنشاء إلزام بإلزام الأوّل من حيث إلزامه ، يدفعه ما سمعته من الأدلّة الدالّة على مشروعيته ، مضافاً إلى إطلاق كونه حاكماً وحجّة المقتضي لتناول ذلك لو صدر منه ، وقال في ذيله: فتأمّل جيّداً ، فإنّ المسألة غامضة ، ولم أجد من نقّحها كما ذكرنا ، بل ستسمع كلام بعض أنّ الإنفاذ ليس حكماً بل هو إقرار حكم ، والتحقيق ما عرفت(3) .
أقول: إنّ البحث في القضاء التنفيذي قد يقع في حقيقته وماهيته ، وقد يقع في وجه الاحتياج والافتقار إليه .
أمّا البحث من الجهة الاُولى ـ وإن لم يكن منقّحاً في كلمات الأصحاب كما عرفت من الجواهر ـ فالظاهر أنّه حكم مستقلّ لا إنفاذ الحكم الأوّل ، غاية الأمر أنّه لا يعتبر فيه البيّنات والأيمان . وقد عرفت في مبحث علم القاضي(4) أنّ الحصر فيهما إضافي ، ولا ينافي الحكم بالعلم ، بل المعتبر فيه حكم الأوّل وثبوته ، وإن لم يكن مطابقاً لرأي الثاني ونظره . وأمّا سائر الخصوصيات المعتبرة سيما ما يكون من صفات القاضي فهو معتبر في القاضي التنفيذي; ولذا سمّي بالقضاء التنفيذي لا به تنفيذ القضاء ، فتدبّر .
- (1) رياض المسائل: 9 / 351 ـ 352 .
- (2) يراجع الوسائل: 27 / 136 و 138 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 و 9 .
- (3) جواهر الكلام: 40 / 309 ـ 310 .
- (4) أي في المسألة الثامنة من صفات القاضي .
(الصفحة 331)
وأمّا البحث من الجهة الثانية; فلأنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى حكمه لأجل شدّة اقتداره وقوّته على إجراء حكمه دون القاضي الأوّل ، أو لأجل أنّ المتخاصمين لهما أو لأحدهما مناقشة في الحكم الأوّل من جهة عدالة القاضي أو علمه مثلا، مع ثبوت كلاهما عند القاضي التنفيذي ، أو لأجل ضعف القاضي الأوّل وعدم بناء الثاني إلاّ على إجراء حكم نفسه ، أو لغير ذلك من الجهات .
وبالجملة: الافتقار إلى القاضي التنفيذي يتحقّق كثيراً .
الأوّل، الكتابة: بأن يكتب إلى حاكم آخر بحكمه ، وقد عرفت أنّ التعبير بكتاب قاض إلى قاض ، كما في الكلمات تبعاً للرواية إنّما يناسب هذا الأمر ، وفي المتن أنّه لا عبرة بها حتى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها ، والظاهر أنّ مستندها هو إطلاق الرواية المتقدّمة الحاكية لعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأنّه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، بعد وضوح أنّ المراد عدم الإجازة الوضعية لا التكليفية ، فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الإجازة ولو مع العلم بأنّها له وأراد مفادها ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الحاكي لعمل المولى كان هو الإمام (عليه السلام)، وكان في مقام بيان الحكم لا نقل القصّة ، غاية الأمر بهذه الكيفية ، ولو كان القيد دخيلا فيه كان عليه بيانه، كما لا يخفى.
هذا ، ولكنّ الظاهر انصراف الرواية عن هذه الصورة التي كانت الكتابة مقرونة بقرائن قطعية موجبة للعلم بذلك ، أو الاطمئنان الذي يعامل معه عند العرف والعقلاء معاملة العلم .
ثمّ إنّ المحقّق في الشرائع أورد على الرواية سنداً بأنّ طلحة بتري ـ وهم فرقة من الزيدية ـ والسكوني عامي(1) ، وأضاف إليه صاحب الجواهر أنّه لا جابر لهما في
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 885 .
(الصفحة 332)
خصوص المفروض ـ أي صورة ثبوت الحكم وإحرازه ـ بل الوهن محقّق ، وشهرة مضمونها في غير المفروض لا يقتضي جبرها فيه .
أقول: مضافاً إلى أنّه لا يعتبر في حجية خبر الواحد واعتباره إلاّ مجرّد الوثاقة وهي متحقّقة بالإضافة إلى سند السكوني وقد حكي عن الشيخ في العُدّة أنّه قال: ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث . . . والسكوني... عن أئمّتنا(عليهم السلام)، فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه(1) ، أنّ ثبوت استناد المشهور إليه كاف في الحجية ، وإن لم يكن إطلاق الرواية مورداً لقبولهم ، نعم قد عرفت انصراف الإطلاق إلى صورة الاشتباه وعدم الأمن من التزوير ، ولا يشمل صورة الأمن بوجه ، مضافاً إلى ما أفاده المحقّق في الشرائع ، حيث قال: ومع تسليمها نقول بموجبها ، فإنّا لا نعمل بالكتاب أصلا ولو شهد به فكأنّ الكتاب ملغى .
والظاهر أنّ قوله: «ولو شهد به» أنّ قيام البيّنة على كونه كتاب القاضي لا يكفي ، خلافاً لبني أميّة حيث انّهم لمّا ولّوا أجازوا بالبيّنات . والظاهر أنّ المراد البيّنات على ثبوت الكتابة ، لا البيّنات على الحكم الموافقة لما في الكتاب ، فإنّه لم يحك عن علي (عليه السلام)منعه ، فلا تتحقّق الموافقة بين الصدر والذيل كما لا يخفى .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا الخلل فيما أفاده في المتن من أنّه لا عبرة بها; أي بالكتابة حتى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها .
الثاني ، القول مشافهة: وقد فصّل فيه في المتن بين ما إذا كان شهادة على إنشائه السابق ، فلا يجدي إلاّ ما إذا كان مع شهادة عادل آخر لتتحقّق البيّنة على ذلك . وأولى من ذلك ما إذا قال: ثبت عندي كذا ، وبين ما إذا كان الإنشاء بحضور الثاني ،
- (1) العُدّة في أصول الفقه: 1 / 149 ـ 150 .
(الصفحة 333)
إن كان الثاني حاضراً في مجلس الإنشاء الصّادر من الأوّل ، وأفاد أنّه خارج عن محطّ البحث لكن يجب إنفاذه . ويظهر من المحقّق في الشرائع التردّد في القبول حيث قال فيها: وأمّا القول مشافهة فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت ، ففي القضاء به تردّد . نصّ الشيخ في الخلاف(1) أنّه لا يقبل(2) .
ومن الواضح أنّ قول: حكمت أو أنفذت أو مثلهما إنّما هو إخبار عمّا وقع له من الإنشاء السابق لا الإنشاء ، كما أنّ التعبير بقوله: ففي القضاء به . . . إشارة إلى ما ذكرنا في القضاء التنفيذي من كونه حكماً ثانياً ، غاية الأمر كونه كذلك لا مجرّد تنفيذ حكم الحاكم الأوّل .
والظاهر أنّ منشأ الترديد أنّ خبر العادل الواحد في الموضوعات التي منها حكم نفسه لا يكون حجّة كما حقّقناه في محلّه ، وعليه فيحتاج إلى شهادة عادل آخر حتى تقوم البيّنة على ذلك ، وأنّ الإنشاء أمر لا يكاد يعلم إلاّ من قبله ، خصوصاً مع أنّ الظاهر أنّه لا يعتبر فيه أن يكون بحضور المتخاصمين وفي معرض استماعهما ، وإن كان مشروطاً بالتماس المحكوم له .
وحينئذ يكفي فيه الإخبار عن إنشاء الحكم إذا لم يكن بحضورهما ، فإذا كان إخباره كافياً لهما مع كونه عادلا وإن كان واحداً ، فالظاهر كفايته بالإضافة إلى الحاكم الآخر ، وخبر العادل الواحد وإن لم يكن حجّة في الموضوعات بنحو الكلية إلاّ أنّه حجة في بعض الموارد ، بل وإن لم يكن عادلا ، كإخبار البائع بوزن المبيع الموزون أو كيل المبيع المكيل ، وإخبار ذي اليد بنجاسة ما في يده ونظائرهما . وقد
- (1) الخلاف: 6 / 245 مسألة 42 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 884 .