(الصفحة 81)السادس : أن يكون المدّعى به معلوماً بوجه ، فلا تسمع دعوى المجهول المطلق ، كأن ادّعى أنّ لي عنده شيئاً ، للتردّد بين كونه ممّا تسمع فيه الدعوى
فرض ثبوته ، فإذا اختلفا في البيع الخياري لا تكون الدعوى مسموعة ، لا لأنّ إنكاره رجوع كما قيل لأنّه ممنوع ، بل لأنّ من لوازم الدعوى أن يكون المدّعى عليه ملزماً بما ثبت عليه بحيث يمكن إجباره عليه ، ومع الجواز لا يكون كذلك .
ويرد عليه أنّ هذا الدليل مصادرة ، وجواز الرجوع قد لا يتعلّق به الغرض ، بل يجوز تعلّقه بعدم وقوع البيع أصلا ، ولم يرد في دليل اعتبار اللزوم حتى يقال كما عن صاحب الجواهر : إنّ المراد من اللزوم ليس كونه بحيث لا يكون للمدّعى عليه الرجوع أو الفسخ ، بل المراد استحقاق المدّعي بعد الإثبات(1) .
ومن ذلك ما لو ادّعى أمراً محالا ، سواء كان محالا عادةً كالطيران إلى السماء ، أو عقلا كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، أو شرعاً كتملّك المسلم للخمر أو الخنزير .
ومن ذلك أيضاً المثال المربوط بالعنب ، فإنّ كونه من بستانه وعدم ادّعاء آخر معه لا يترتّب عليه أثر على فرض الثبوت ، ولا يوجب أخذ العنب بعد كونه في يد الغير ، واحتمال الانتقال إليه بأحد الطرق الشرعيّة كما لا يخفى ، وعدم ثبوت دعوى أزيد من هذا ، ومن هذا الباب أيضاً دعوى ملكيّة المسلم للخمر أو الخنزير وماليّتهما له ، وهو داخل في المحال الشرعي ، وكان ينبغي له التقييد بالمسلم; ولذا ذكروا في باب الديات أنّ اتلافهما على الذمّي يوجب الغرامة ، فتدبّر .
ومن ذلك أيضاً الدعوى على غير المحصورين ، الذي لا يترتّب على احتماله عند العقلاء أثر ، وأمّا ادّعاء الدين على المحصورين فسيأتي حكمهم .
- (1) جواهر الكلام : 40 / 378 .
(الصفحة 82)أم لا ، وأمّا لو قال : «إنّ لي عنده فرساً أو دابّة أو ثوباً» فالظاهر أنّه تسمع ، فبعد الحكم بثبوتها يطالب المدعى عليه بالتفسير ، فإن فسّر ولم يصدّقه المدّعي فهو دعوى اُخرى ، وإن لم يفسّر لجهالته مثلا فإن كان المدّعى به بين أشياء محدودة يقرع على الأقوى ، وإن أقرّ بالتلف ولم ينازعه الطّرف ، فإن اتّفقا في القيمة وإلاّ ففي الزيادة دعوى اُخرى مسموعة1.
1 ـ حكي عن الشيخ وأبي الصلاح وبني زهرة وحمزة وإدريس(1) ، والعلاّمة في بعض كتبه ، وكذا الشهيد الأوّل في الدروس(2) اعتبار أن يكون المدّعى به معلوماً بالجنس والنوع والوصف والقدر ، وأنّه لا تسمع الدعوى في كلا الفرضين المذكورين في المتن .
والظاهر أنّه لم يقم دليل عليه ، خصوصاً بعدما ذكروه في كتاب الإقرار : من أنّ الإقرار المتعلّق بالمجهول المطلق ـ والمبهم كذلك ـ يكون مسموعاً بمقتضى قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، غاية الأمر أنّه يلزم المقرّ بالتفسير ، ويقبل تفسيره إن لم يكن مخالفاً للعرف . وعليه فمقتضى القاعدة مسموعيّة الدعوى حتى في الفرض الأوّل الذي حكم ببطلانه في المتن ، غاية الأمر أنّه علّل البطلان فيه بالتّردد بين ما تسمع وما لا تسمع .
ويرد عليه أنّ التّردّد إن كان بلحاظ أنّه يمكن أن لا يكون الشيء الذي ادّعى أنّ له عنده شيئاً مالا ، فيرد عليه عدم اعتبار الماليّة في المدّعى به ، كعدم اعتبارها في المقرّ به ، إن لم يكن الكلام ظاهراً فيها ، وإن كان بلحاظ أنّه يمكن أن لا يكون
- (1) المبسوط : 3 / 4 وج8 / 156 ، الكافي في الفقه : 445 ، غنية النزوع : 444 ، الوسيلة : 216 ـ 217 ، السرائر : 2 / 177 .
- (2) التحرير : 2 / 189 ، التذكرة : 2 / 151 ، الدروس الشرعيّة : 2 / 84 .
(الصفحة 83)السّابع : أن يكون للمدّعي طرف يدّعي عليه ، فلو ادّعى أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فعلا لم تسمع ، كما لو أراد إصدار حكم من فقيه يكون قاطعاً للدعوى المحتملة ، فإنّ هذه الدعوى غير مسموعة ، ولو حكم الحاكم بعد سماعها ، فإن كان حكمه من قبيل الفتوى ، كأن حكم بصحّة الوقف الكذائي أو البيع الكذائي فلا أثر له في قطع المنازعة لو فرض وقوعها . وإن كان من قبيل
ملكاً أيضاً ، فمضافاً إلى أنّ لازمه المسموعيّة فيما إذا كان للكلام ظهور في الملكيّة ، كما أنّها مقتضى اللاّم أحياناً . يرد عليه أنّه لا دليل على اعتبار الملكيّة أيضاً ، ولا يدّعيها المدّعي ، بل منشأ دعواه في بعض الموارد ثبوت حقّ الاختصاص له ، وحينئذ فلم يعلم وجه للتردّد بين كونه ممّا لا تسمع دعواه أم لا ، فالإنصاف أنّه لا دليل على البطلان في الفرض الأوّل .
وأمّا الفرض الثاني فهو أولى بالصحّة لمعلوميّة المدّعى به بوجه ، وحينئذ فإن لم يكن الحكم بنفعه فبها ، وإن كانت المحاكمة منتهية بنفعه وفصل الخصومة على طبق ما ادّعاه ، فلا يثبت بالحكم في هذه الدعوى أزيد ممّا ادّعاه ، بل بعد الحكم يطالب المدّعى عليه بالتفسير ، فإن فسّر بما رضي به المدّعي فهو ، وإلاّ فهو دعوى اُخرى تحتاج إلى محاكمة جديدة ، وإن لم يفسّر أصلا لجهالته مثلا ، فإن كان المدّعى به مردّداً بين أشياء محدودة لا محيص إلاّ عن القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل .
وفي صورة الإقرار بالتلف وعدم منازعة الطرف ، فإن تحقّق التوافق بالإضافة إلى القيمة التي تحقّق الانتقال إليها بعد التلف فبها ، وإلاّ فمع الاختلاف في الزيادة والنقيصة يكون القدر المتيقّن هو الأقلّ ، وبالنسبة إلى الزيادة تكون هنا دعوى اُخرى مسموعة بوجود شرائط السّماع فيها ، وهذا لا فرق بين أن يكون الملاك قيمة يوم التلف ، أو يوم الأداء ، أو أعلى القيم ، كما لايخفى .
(الصفحة 84)أنّ لفلان على فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما ، فهذا ليس حكماً يترتّب عليه الفصل وحرمة النقض ، بل من قبيل الشهادة . فإن رفع الأمر إلى قاض آخر يسمع دعواه ، ويكون ذلك الحاكم من قبيل أحد الشهود ، ولو رفع الأمر إليه وبقي على علمه بالواقعة له الحكم على طبق علمه1.
1 ـ لا خفاء في أنّ رفع التنازع وفصل الخصومة يفتقر إلى أن يكون هنا شخصان متنازعان ، فلو ادّعى أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فعلا فيها ، لم تسمع كما في المثال المذكور في المتن ، فإنّه لا يجب على الحاكم سماع هذه الدعوى . نعم لو حكم الحاكم بعد سماعها ، فإن كان حكمه من قبيل الفتوى فلا أثر له في قطع المنازعة الآتية; لأنّه بالفعل لا يكون تنازع في المستقبل ، وإن تحقّقت المنازعة فرضاً ، إلاّ أنّ صرف الفتوى التي هي بيان الحكم الكلّي والكبرى التامّة لا يكفي في رفع المخاصمة المتحقّقة في القضايا الشخصيّة ، وإن ذكرنا فيما سبق أنّه قد يكون منشأ الاختلاف بين المدّعي والمنكر اختلاف النظر فيمن يرجع إليه للتقليد ، وذكرنا أيضاً أنّ الحاكم يقضي على طبق نظره ورأيه ، إلاّ أنّه لا إشكال في أن الفتوى أمر والقضاء أمر آخر ، ولا يكفي الأوّل لرفع الخصومة والفصل ، وعليه فمجرّد الفتوى لا أثر له في قطع المنازعة والمخاصمة ، وإن قلنا بمقالة الشهيد في الدروس في تفسير القضاء وتعريفه من شموله للولاية على الحكم في المصالح العامّة أيضاً(1); كالحكم بثبوت الهلال على خلاف ما ذكرناه سابقاً .
وإن كان حكمه من قبيل أنّ لفلان على فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما ، فهذا لا يكون حكماً يترتّب عليه الفصل وحرمة النقض ، بل هو من قبيل الشهادة ، فإن
- (1) الدروس الشرعيّة : 2 / 65 .
(الصفحة 85)الثامن : الجزم في الدّعوى في الجملة ، والتفصيل أنّه لا إشكال في سماع الدعوى إذا أوردها جزماً ، وأمّا لو ادّعى ظنّاً أو احتمالا ففي سماعها مطلقاً أو عدمه مطلقاً ، أو التفصيل بين موارد التّهمة وعدمها بالسماع في الأوّل ، أو التفصيل بين مايتعسّر الاطلاع عليه كالسرقة وغيره فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعارف الخصومة به ـ كما لو وجد الوصيّ أو الوارث سنداً أو دفتراً فيه ذلك ، أو شهد به من لا يوثق به ـ وبين غيره فتسمع في الأوّل ، أو التفصيل بين موارد التّهمة وما يتعارف الخصومة به ، وبين غيرهما فتسمع فيهما وجوه ، الأوجه الأخير ، فحينئذ لو أقرّ المدّعى عليه أو قامت البيّنة فهو ، وإن حلف المدّعى عليه سقطت الدعوى ، ولو ردّ اليمين لا يجوز للمدّعي الحلف ، فتتوقّف الدعوى . فلو ادّعى بعده جزماً أو عثر على بيّنة ورجع إلى الدعوى تسمع منه1.
رفع الأمر بعد تحقّق التنازع إلى قاض آخر تسمع دعواه ، ويكون حكم ذلك الحاكم من قبيل شهادة أحد الشاهدين ، وإن رفع الأمر بعده إلى نفسه ، فإن كان عالماً بالواقعة فعلا فله الحكم على طبق علمه ، وإلاّ يستأنف كما لا يخفى .
1 ـ المشهور على اعتبار الجزم في الدعوى في سماعها مطلقاً ، وأنّه لا تسمع الدعاوى الظنّية والاحتماليّة أصلا(1) ، وعن جماعة عدم اعتباره مطلقاً(2) ، وعن بعض التفصيل بين الظنّية والاحتماليّة بالسماع في الأوّل دون الثاني(3) ، وهنا
- (1) كفاية الأحكام : 266 (ط ق) .
- (2) إيضاح الفوائد : 4 / 327 ـ 328 ، مجمع الفائدة والبرهان : 12 / 124 ـ 126 .
- (3) شرائع الإسلام : 4 / 872 ، وقال في الروضة البهيّة : 3 / 80 : بالسماع فيما يعسر عليه ، وأورد جميع هذه الأقوال الشيخ الأنصاري في القضاء والشهادات ، (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 171 ـ 172 .