(الصفحة 93)الدعوى ، فلو ادّعى على الغائب من البلد سواء كان مسافراً أو كان من بلد آخر ـ قريباً كان أو بعيداً ـ تسمع ، فإذا أقام البيّنة حكم القاضي على الغائب ويردّ عليه ما ادّعى إذا كان عيناً ، ويباع من مال الغائب ويؤدّى دينه إذا كان ديناً ، ولا يدفع إليه إلاّ مع الأمن من تضرّر المدّعى عليه لو حضر ، وقضى له بأن كان المدّعي مليّاً أو كان له كفيلٌ ، وهل يجوز الحكم لو كان غائباً وأمكن إحضاره بسهولة ، أو كان في البلد وتعذّر حضوره بدون إعلامه؟ فيه تأمّل . ولا فرق في سماع الدعوى على الغائب بين أن يدّعي المدّعي جحود المدّعى عليه وعدمه ، نعم لو قال : «إنّه مقرّ ولا مخاصمة بيننا» فالظاهر عدم سماع دعواه وعدم الحكم ، والأحوط عدم الحكم على الغائب إلاّ بضم اليمين ، ثم إنّ الغائب على حجّته ، فإذا حضر وأراد جرح الشهود أو إقامة بيّنة معارضة يقبل منه لو قلنا بسماع بيّنته1.
السيّد في الملحقات(1) ، نظراً إلى ما ورد في درهم الودعي ، ولكن التعدّي عن مورده بلحاظ كون الحكم على خلاف القاعدة مشكل .
1 ـ في هذه المسألة يقع الكلام في مقامات :
المقام الأوّل : في أصل القضاء على الغائب في الجملة ، ومرجعه إلى عدم شرطيّة حضور المدّعى عليه في سماع الدعوى ، والدليل عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا إشكال ولا خلاف فيه بيننا ، بل كما في الجواهر الإجماع بقسميه(2) عليه ـ عدّة من الروايات :
منها : رواية جميل بن درّاج ، عن جماعة من أصحابنا ، عنهما (عليهما السلام) قالا : الغائب
- (1) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 45 .
- (2) جواهر الكلام : 40 / 220 .
(الصفحة 94)
يقضى عليه ، إذا قامت عليه البيّنة ويباع ماله ، ويقضى عنه دينه وهو غائب ، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم ، قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّة إلاّ بكفلاء ، وروى جميل بن دراج ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه وزاد : إذا لم يكن ملّياً(1) .
والتعبير عن الرواية بالمرسلة ليس على ما ينبغي ، خصوصاً مع ملاحظة الطريق الثاني .
ومنها : رواية زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان عليّ (عليه السلام) يقول : لا يحبس في السّجن إلاّ ثلاثة : الغاصب ، ومَن أكل مال اليتيم ظلماً ، ومَن ائتمن على أمانة فذهب بها ، وإن وجدَ له شيئاً باعه ، غائباً كان أو شاهداً(2) .
ومنها : بعض الروايات الاُخر من غير طرقنا ، مثل ما عن أبي موسى الأشعري ، قال : كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا حضر عنده خصمان فتواعدا الموعد ، فوفى أحدهما ولم يف الآخر ، قضى للذي وفى على الذي لم يفِ أي مع البيّنة(3) . وما روي من أنّ هنداً زوجة أبي سفيان بعدما ادّعت أنّ أبا سفيان رجل شحيح ، وأنّه لا يعطيها ما يكفيها وولدها ، قال لها النبي (صلى الله عليه وآله) : خذي ما يكفيك وبنيك بالمعروف(4) . وإن أورد على الأخير السيّد في الملحقات : بأنّه لا يكون من باب بيان الحكم بل بيان الفتوى ، مع
- (1) التهذيب : 6 / 296 ح827 و 828 وص191 ح413 ، الكافي : 5 / 102 ح2 ، الوسائل : 27 / 294 ، أبواب كيفيّة الحكم ب26 ح1 .
- (2) التهذيب : 6/299 ح836 ، الإستبصار : 3/47 ح154 ، الوسائل : 27 / 295 ، أبواب كيفيّة الحكم ب26 ح2 .
- (3) كنز العمال : 5 / 849 ح14539 .
- (4) سنن البيهقي : 15 / 148 ح21075 .
(الصفحة 95)
أن غيبة أبي سفيان من البلد غير معلومة(1) .
هذا ، وفي مقابل الروايات المتقدّمة ما رواه في قرب الاسناد عن السندي بن محمّد ، عن أبي البختري ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ (عليه السلام) قال : لا يقضى على غائب(2) .
ولكنّها مضافاً إلى إمكان حملها على صورة عدم جزم المدّعي ، وكون الجزم شرطاً في سماع الدعوى ، وإلى احتمال كون المراد بالقضاء القضاء الذي لا يتعقّبه كون الغائب على حجته إذا قدم ، وإلى بعض الاحتمالات الاُخر ، مثل كون المراد الغائب عن مجلس المرافعة ، يكون على تقدير التعارض الترجيح مع الطائفة الاُولى للشهرة الفتوائيّة ، التي هي أوّل المرجّحات على ما قلناه .
المقام الثاني : الظاهر أنّ المراد بالغائب في النصّ والفتوى هو الغائب عن البلد ، سواء كان قد سافر عن البلد إلى غيره بالسّفر الشرعيّ المشتمل على المسافة أو بغيره ، أو كان في خارج البلد ، سواء كان بعيداً أم قريباً ، ويدلّ عليه مع أنّ الغائب قد يطلق ويراد به الغائب عن صلاحيّة الرؤية كالله تبارك وتعالى ، وقد يطلق ويراد به الغائب عن الأنظار العرفيّة كالإمام الغائب عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، وقد يطلق ويراد به الغائب عن مجلس المرافعة والمحاكمة ، كما يستفاد من ذيل رواية جميل ، وهو قوله (عليه السلام) : «يكون الغائب على حجّته إذا قدم» كما مرّ .
مع أنّ الظاهر إمكان تحقّق هذا العنوان مع قطع النظر عن المنازعة وفصل الخصومة ، خصوصاً مع أنّ المعروف هو كون التصرّف في اُمور المغيب والمقصّر من
- (1) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 46 .
- (2) قرب الإسناد : 141 ح508 ، الوسائل : 27 / 296 ، أبواب كيفيّة الحكم ب26 ح4 .
(الصفحة 96)
الاُمور الحسبيّة ، وعليه فإذا كان المدّعى عليه في البلد ، ولكن كان غائباً عن مجلس المرافعة لا يصدق عليه الغائب ، ولا تشمله الرواية إلاّ بإلغاء الخصوصيّة ، وهذا لا فرق فيه بين صورتي تعذّر الحضور وعدمه ، والاعلام وعدمه . نعم في الغائب عن البلد إذا أمكن إحضاره بسهولة ربّما يشكل في الحكم عليه كما في المتن ، والظاهر أنّ وجهه احتمال انصراف النصّ والفتوى عنه على تأمّل ، لا لعدم شمول العنوان له .
نعم يمكن أن يقال بعدم تماميّة الإطلاق في الرّواية; لعدم كونها في مقام البيان ، ولا تكون مقدّمات الحكمة فيها مجتمعة ، فلا يجوز التمسّك بإطلاقها . ويدفعه أنّ التعرّض لجمع من خصوصيّات المسألة دليل على كونها في مقام البيان ، ولا يكاد ينقضي تعجّبي ممّن يتمسّك بالإطلاق تارةً وبالقدر المتيقّن اُخرى .
المقام الثالث : في أنّ المدّعي قد يدّعي جحود المدّعى عليه الغائب ، وقد يقول بأنّه لا يعلم جحوده وعدمه ، وقد يقول : إنّه مقرّ ولا مخاصمة بيننا . لا إشكال في سماع دعواه في الصورة الاُولى ، كما أنّه لا ينبغي الإشكال في السماع في الصورة الثانية . وأمّا الصورة الثالثة فقد استظهر في المتن عدم سماع دعواه ، وعدم الحكم على الغائب ، وهو مبنيّ على ما أفاده في تعريف القضاء من أنّه فصل الخصومة ورفع التنازع ، فإنّه مع الاعتراف بعدم المخاصمة كيف تفصل الخصومة ، مع أنّه يمكن أن يقال : بأنّ الحكم بالحقّ أو بالعدل أو بالقسط المأمور به المدلول عليه بالآيات الشريفة لا يختصّ بصورة المخاصمة ، فإنّه يمكن أن يتضرّر المدّعي من تأخير وصول حقّه إليه ، أو عدم الوصول فيما إذا لم يجِئ الغائب أو مات في السّفر مثلا ، وفي هذه الصورة لا محيص عن الحكم ، وإن لم يكن المدّعى عليه جاحداً أصلا .
(الصفحة 97)مسألة 6 : الظاهر اختصاص جواز الحكم على الغائب بحقوق الناس ، فلا يجوز الحكم عليه في حقوق الله تعالى مثل الزّنا ، ولو كان في جناية حقوق الناس وحقوق الله كما في السّرقة ، فإنّ فيها القطع وهو من حقوق الله وأخذ المال وردّه إلى صاحبه وهو من حقوق الناس ، جاز الحكم في حقوق الناس دون حقوق الله ، فلو أقام المدّعي البيّنة حكم الحاكم ، ويؤخذ المال على ما تقدّم1.
المقام الرابع : في أنّه جعل في المتن مقتضى الاحتياط اللزومي ضمّ اليمين إلى البيّنة كما عليه المشهور(1) ، والظاهر ابتناؤه على لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة في الدعوى على الميّت ، التي سيأتي البحث عنها; نظراً إلى إلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط ، وهو محلّ تأمّل وكلام .
المقام الخامس : في اختصاص جواز الحكم على الغائب بحقوق الناس وعدمه ، وقد تعرّض له الماتن (قدس سره) في المسألة الآتية .
1 ـ الدليل على الاختصاص المذكور في المتن ، مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّه لا خلاف فيه قاعدة «درء الحدود بالشبهات» وبناؤها على التخفيف ، كما يدلّ عليه مرسلة الصدوق المعتبرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2) . نعم لو كانت الجناية المدّعاة ممّا اشترك فيه حقّ الناس وحقّ الله كما في السّرقة ، حيث إنّ فيها القطع وهو من حقوق الله وأخذ المال وردّه إلى صاحبه وهو من حقوق الناس ، فإنّه لا إشكال في جواز الحكم في حقوق الناس ، ويترتّب عليه أخذ المال من السارق وردّه إلى
- (1) كفاية الأحكام : 269 .
- (2) الفقيه : 4 / 53 ح90 ، الوسائل 28 : 47 ، أبواب مقدّمات الحدود ب24 ح4 .