(الصفحة 65)
القول في وظائف القاضي
وهي اُمور :
الأوّل : يجب التسوية بين الخصوم ـ وإن تفاوتا في الشرف والضعة ـ في السلام والردّ والاجلاس ، والنظر والكلام والانصات وطلاقة الوجه ، وسائر الآداب ، وأنواع الاكرام ، والعدل في الحكم . وأمّا التسوية في الميل بالقلب فلايجب ، هذا إذا كانا مسلمين ، وأمّا إذا كان أحدهما غير مسلم يجوز تكريم المسلم زائداً على خصمه . وأمّا العدل في الحكم فيجب على أيّ حال1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة في مقامين :
المقام الأوّل : ما إذا كان الخصمان مسلمين ، وإن كانا متفاوتين في الشرف والضّعة ، ظاهر المتن وجوب التسوية بينهما في الاُمور المذكورة ، وفي الرياض أنّ هذا أي الوجوب هو الأظهر الأشهر وفاقاً للصدوقين(1) ، بل حكى عليه الشهرة
- (1) المقنع : 397 ، ونقل في المختلف : 8 / 421 مسألة 22 عن الصدوقين .
(الصفحة 66)
المطلقة في المسالك والروضة(1) ، لكن في الجواهر : أنّ الموجود في المسالك النسبة إلى الأكثر ، بل الظاهر عدم تحقّق ذلك على سبيل الوجوب ، خصوصاً في مثل عبارة الصّدوقين التابعة للتعبير بما في النصوص غالباً(2) .
وكيف كان فالدليل على الوجوب بعض الروايات :
مثل : رواية سلمة بن كهيل ، التي في سندها الحسن بن محبوب ، قال : سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول لشريح : ـ إلى أن قال : ـ ثم واسِ بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك ، حتّى لا يطمع قريبك في حيفك ، ولا ييأس عدوّك من عدلك(3)الحديث .
والإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة لا يرجع إلى صحّة روايتهم ، وعدم النظر إلى من يروون عنه بلا واسطة أو معها ، بل غايته كما مرّ في بعض المباحث السّابقة الإجماع على وثاقته واعتباره ، وأنّه ممتاز من هذه الجهة فقط . وعليه فلا تكون الرواية معتبرة ، وقد صرّح المحقّق في كلماته بضعف سلمة(4) .
ورواية عبيد الله بن علي الحلبي قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام)لعمر بن الخطّاب : ثلاث إن حفظتهنَّ ، وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ . قال : وما هنّ يا أبا الحسن؟ قال : إقامة الحدود على القريب والبعيد ، والحكم بكتاب الله في الرضا والسّخط ، والقسم بالعدل بين الأحمر
- (1) مسالك الأفهام : 13 / 428 ، الروضة البهيّة : 3 / 72 .
- (2) جواهر الكلام : 40 / 141 .
- (3) الكافي: 7 / 412 ح1 ، الفقيه: 3 / 8 ح10 ، التهذيب: 6 / 225 ح541 ، الوسائل: 27/ 211 ، أبواب آداب القاضي ب1 ح1 .
- (4) شرائع الإسلام : 4 / 1052 .
(الصفحة 67)الثاني : لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين شيئاً يستظهر به على خصمه كأن يدّعي بنحو الاحتمال ، فيلقنه أن يدّعي جزماً حتى تُسمع دعواه أو
والأسود . قال عمر : لعمري لقد أوجزت وأبلغت(1) .
ورواية السكوني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة ، وفي النظر ، وفي المجلس(2) . والظاهر أنّه ليس المراد الاختصاص بهذه الاُمور .
والظاهر أنّ الروايات الواردة لا تخلو من الخلل في السند أو المناقشة في الدّلالة ، وإثبات الحكم الوجوبي بها مشكل . فالإنصاف أنّه لا تكون التسوية المذكورة بواجبة ، بل مستحبّة كما عن العلاّمة في المختلف ، وتبعه صاحب الجواهر(3) .
المقام الثاني : إذا كان أحدهما مسلماً والآخر غير مسلم مثل الكافر الذّمي ، وفي هذه الصورة لا تجب التسوية بل ولا تستحبّ ، بل يجوز إكرام المسلم زائداً على خصمه . نعم لا ينبغي المناقشة في وجوب العدالة في الحكم .
وعن علي (عليه السلام)أنّه جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهوديّ في درع ، وقال : لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس ، ولكنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)يقول : لا تساووهم في المجلس(4) .
- (1) التهذيب : 6 / 227 ح547 ، الوسائل : 27 / 212 ، أبواب آداب القاضي ب1 ح2 .
- (2) الكافي : 7 / 413 ح3 ، التهذيب : 6 / 226 ح543 ، الفقيه : 3 / 8 ح9 ، الوسائل : 27 / 214 ، أبواب آداب القاضي ب3 ح1 .
- (3) مختلف الشيعة : 8 / 421 مسألة 22 ، جواهر الكلام : 40 / 141 ـ 142 .
- (4) حلية الأولياء : 4 / 139 ، تلخيص الحبير : 4 / 193 ، المغني لابن قدامة : 11 / 444 .
(الصفحة 68)يدّعي أداء الأمانة أو الدين ، فيلقّنه الإنكار ، وكذا لا يجوز أن يعلّمه كيفيّة الاحتجاج وطريق الغلبة ، هذا إذا لم يعلم أنّ الحقّ معه ، وإلاّ جاز كما جاز له الحكم بعلمه ، وأمّا غير القاضي فيجوز له ذلك مع علمه بصحّة دعواه ، ولا يجوز مع علمه بعدمها ، ومع جهله فالأحوط التّرك1.
1 ـ إن قلنا بوجوب التسوية في الأمر الأوّل ، فعدم الجواز في هذا الأمر الثاني يكون بطريق أولى ، فإنّه إذا لم يجز للقاضي النظر بغير المساوي إلى الخصمين ، فعدم جواز التلقين المذكور في المتن إنّما يكون بنحو الأولويّة . وأمّا إذا قلنا في الأمر الأوّل : بعدم الوجوب; لأنّه لا دليل عليه كما اخترناه فيه ، فيشكل الأمر في عدم الجواز الشرعي في هذه الصّورة خصوصاً بعد عدم رواية ولا نصّ عليه ، كما يستفاد من تعليل المحقّق (قدس سره) في الشرائع ، حيث إنّه علّله بأنّ ذلك يفتح باب المنازعة وقد نصب لسدّها(1) ، ويرد عليه أنّه إن لم يكن إجماع ، ما الدليل على حرمة ذلك ، خصوصاً بعد انتهاء القضيّة إلى حكم القاضي الرافع للتنازع والخصومة ، وخصوصاً بعد إمكان اندراجه في تعليم محاورات الشرع؟
هذا كلّه مع عدم علم القاضي بالواقعة ، وأنّ الحقّ مع الذي يلقّنه ، وإلاّ فكما يجوز للحاكم الحكم بعلمه ـ كما عرفت في بعض المسائل المتقدّمة ، من دون فرق بين حدود الله وحقوق الناس خلافاً لجملة آخرين ـ يجوز تعليمه ليصل إلى حقّه مع فرض وجود المانع عن الحكم بالعلم ، كشدّة التّهمة ونحوها .
وأمّا غير القاضي فإن كان عالماً بصحّة دعواه يجوز له ذلك أي التعليم والتلقين ، كما أنّه إذا كان عالماً بعدم صحّة دعواه لا يجوز له ذلك; لأنّه من باب التعاون على
- (1) شرائع الإسلام : 4 / 870 .
(الصفحة 69)الثالث : لو ورد الخصوم مترتّبين بدأ الحاكم في سماع الدعوى بالأوّل فالأوّل إلاّ إذا رضي المتقدّم تأخيره ، من غير فرق بين الشريف والوضيع والذكر والاُنثى ، وإن وردوا معاً أو لم يعلم كيفيّة ورودهم ولم يكن طريق لإثباته يقرع بينهم مع التشاحّ1.
الإثم والعدوان المحرّمين بمقتضى الآية الشريفة(1) . وأمّا إذا كان جاهلا بالصحّة وعدمها ، فمقتضى القاعدة في الشبهة التحريميّة المصداقيّة ، وإن كان هو الجواز عقلا إلاّ أنّه مع ملاحظة القول بعدم الجواز ، وكون القضاء الإسلامي لابدّ لكلّ أحد وأن يحفظ في مقامه العالي والرتبة الشامخة ، يكون مقتضى الاحتياط الترك ، كما في المتن .
1 ـ قال المحقّق في الشرائع : في الفرض الأخير : فإن وردوا جميعاً قيل : يقرع بينهم ، وقيل : يكتب أسماء المدّعين ، ولا يحتاج إلى ذكر الخصوم ، وقيل : يذكرهم أيضاً لتحضر الحكومة معه ، وليس بمعتمد ، ويجعلها تحت ساتر ، ثمّ يخرج رقعة رقعة ويستدعي صاحبها . وقيل : إنّما تكتب أسماؤهم مع تعسّر القرعة بالكثرة(2) .
أقول : لو لم نقل بوجوب التسوية بين الخصمين في الاُمور المذكورة في الأمر الأوّل كما اخترناه ، لا يكون هناك دليل على وجوب البدءَة في سماع الدعوى بالأول فالأوّل فيما إذا ورد الخصوم مع التعاقب ، ولا على وجوب القرعة فيما إذا وردا جميعاً ، أو لم يعلم كيفيّة ورودهم . فإنّ إطلاق الأمر بالحكومة للحاكم لايقتضي إلاّ التخيير في المقام ، وإن كانت الحكومة واجبة بالوجوب العيني أو الكفائي .
- (1) وهي قوله تعالى في سورة المائدة 5 : 2 (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ).
- (2) شرائع الإسلام : 4 / 871 .