(الصفحة 315)
وعن جماعة تقديم بيّنة الخارج مطلقاً من غير رجوع إلى المرجحات ، ومن غير فرق بين ذكر السبب في البيّنتين أو في إحداهما أو عدم ذكره ، وعن الغنية الإجماع عليه(1) ، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من الانجبار فتدبّر .
فإنّ ظاهر الجواهر والمستند أنّ المشهور هو تقديم الخارج إذا شهدتا بالملك المطلق مع التساوي في العدد والعدالة وعدمه ، والظاهر أنّ المشهور هو التقديم مطلقا من دون فرق بين ما إذا شهدتا بالملك المطلق وعدمه ، ويؤيّده دعوى الغنية الإجماع على كلاهما . فالظاهر أنّ المشهور هو الأمر الأخير وهو التقديم مطلقاً ، وعليه فلا يبقى ارتياب في الانجبار ، كما لايخفى .
وخلاصة الكلام في هذه الصورة أنّه مع اقتضاء القاعدة ما ذكرنا من تقديم بيّنة الخارج ، لابدّ في رفع اليد عن مقتضى القاعدة من نهوض دليل قويّ عليه ، ومع عدمه ـ فضلا عن وجود بعض ما يطابق القاعدة الموافق للمشهور ـ لا وجه لرفع اليد عنه ، كما لايخفى .
الصورة الثانية: ما إذا كانت العين في يدهما معاً . مقتضى القاعدة فيها التنصيف بلحاظ الأمرين اللذين ذكرناهما سابقاً ، وهما أنّ ثبوت يد اثنين على تمام مال واحد مرجعه إلى ثبوت يد كلّ منهما على النصف المشاع ، فيكون كلّ منهما داخلا وخارجاً معاً ، وأيضاً مقتضى تقديم بيّنة الخارج أو بيّنة الداخل ، فبيّنة كلّ واحد منهما مسموعة بالإضافة إلى النصف الخارج ، وغير مسموعة بالنسبة إلى النصف الداخل ، فلا محالة يحكم بينهما بالتنصيف على طبق القاعدة، كما أفاده في المتن ، وفي
- (1) هذا هو الوجه الأوّل الذي ادّعى صاحب الجواهر الشهرة عليه .
(الصفحة 316)
الشرائع الحكم بها بينهما نصفين(1) ، وأضاف إليه في الجواهر قوله: من دون إقراع ولا ملاحظة ترجيح بأعدليّة أو أكثرية ، بلا خلاف أجده بين من تأخّر عن القديمين الحسن وأبي علي ، بل صرّح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجّحات الآتية في غير هذه الصورة(2) .(3)
وقد استدل المحقّق لما أفاده من التنصيف بما يرجع إلى ما ذكرنا من لزوم تقديم بيّنة الخارج على بيّنة الداخل بعد كون يد كلّ واحد منهما على النصف ، لكن في المسالك احتمال أحد أمرين آخرين في سبب التنصيف، حيث إنّه قال في محكيّه: لا إشكال في الحكم بها بينهما نصفين ، لكن اختلف في سببه ، فقيل: لتساقط البيّنتين بسبب التساوي ، وبقي الحكم كما لو لم تكن بيّنة . وقيل: لأنّ مع كلٍّ منهما مرجّحاً باليد على نصفها فقدّمت بيّنته على ما في يده ، وأضاف إليه قوله:
وتظهر الفائدة حينئذ في اليمين على من قضي له ، فعلى الأوّل ـ أي سقوط البيّنتين بسبب التعارض ـ يلزم كلاًّ منهما اليمين لصاحبه . وعلى الاخرين ـ القول بثبوت الترجيح باليد والقول بتقديم بيّنة الخارج ـ لا يمين لترجيح كلٍّ من البيّنتين باليد على أحدهما فتعمل بالراجح; ولأن البيّنة ناهضة بإثبات الحقّ على الثاني فلا يمين معها(4) .
ولكن حكي عن التحرير ، أنّه مع التصريح بكون السبب تقديم بيّنة الخارج ، قال: وهل يحلف كلّ واحد على النصف المحكوم له به ، أو يكون له من غير يمين .
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 897 .
- (2) رياض المسائل: 9 / 413 .
- (3) جواهر الكلام: 40 / 410 .
- (4) مسالك الأفهام: 14 / 81 .
(الصفحة 317)
الأقوى عندي الأوّل مع احتمال الثاني(1) .
والظاهر أنّه مع ملاحظة القاعدة لا مجال لأقوائية الحلف; لأنّه مع تقديم بيّنة الخارج التي هي بيّنة المدّعي لا حاجة إلى ضمّ الحلف ، بعد كون البيّنة للمدّعي في الدرجة الاُولى ، واليمين على من اُدّعي عليه في الدرجة الثانية ، كما عرفت .
وأمّا مع ملاحظة الروايات، ففي رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة: أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما ، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده ، فأحلفهما عليّ (عليه السلام) ، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف ، فقضى بها للحالف الخ(2) . والظاهر خصوصاً بملاحظة الذيل أنّه مع حلفهما عقيب الإحلاف يتحقق التنصيف بينهما ، كما لايخفى . كما أنّ الظاهر ـ بملاحظة ذيلها المشتمل على حلف ذي اليد ، فيما إذا كانت الدابّة في يد أحدهما ، فأقاما جميعاً البيّنة ـ سقوط البيّنتين بالتعارض والرجوع إلى حلف ذي اليد ; لعدم خصوصية للتعارض والتساقط لهذه الصورة ، بل يمكن دعوى الأولويّة ، كما لايخفى وهو أحد الامور الثلاثة المتقدمة في سبب التنصيف ، وقد عرفت عدم تعدّد الروايات الواردة في الاختصام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)(3) ، والإحلاف إنّما هو مذكور في هذا الخبر الذي يكون سنده غير تامّ ، كما في الجواهر، حيث قال: وفي سنده ما فيه(4) ، لكن بعض الأعلام (قدس سره) عبّر عن الرواية بالمعتبرة(5) ، التي يراد بها الموثقة .
- (1) تحرير الأحكام: 2 / 195 .
- (2 و 3) تقدّمت في ص307 ـ 308 .
- (4) جواهر الكلام: 40 / 412 .
- (5) مباني تكملة المنهاج: 1 / 49 .
(الصفحة 318)
ومنشأ الإشكال في سند الرواية وجود الحسن بن موسى الخشاب فيها . والمحكي عن النجاشي في حقّه أنّه من وجوه أصحابنا، مشهور(1) ، ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير الوثاقة بل ما فوقها وإن لم يصرّح بالوثاقة; ولذا عدّ من الذين وصل المدح فيهم ولم يصرّح بوثاقتهم ، وهل يجوز الاستناد في الحكم المخالف للقاعدة إلى مثل هذه الرواية؟ الظاهر العدم .
وعليه فلا محيص إلاّ الأخذ بمقتضى القاعدة وهو عدم لزوم الحلف . ثمّ إنّ المخالف لأصل التنصيف في المسألة هما القديمان على ما عرفت في كلام صاحب الجواهر ، فإنّ ظاهر ابن أبي عقيل هو اعتبار القرعة ، التي هي لكلِّ أمر مشكل في خصوص ما نحن فيه; لأنّ التنصيف تكذيب للبيّنتين ، وظاهر ابن الجنيد أنّه مع تساوي البيّنتين تعرض اليمين على المدّعيين ، فإن حلف أحدهما استحقّ الجميع ، وإن حلفا جميعاً كانت بينهما نصفين ، ومع اختلافهما يقرع ، فمن أخرجته القرعة حلف وأخذ العين(2) .
ويردّهما ـ مضافاً إلى أنّه لا إشكال ولا شبهة هنا بعد اقتضاء القاعدة ـ ما عرفت من تقديم بيّنة الخارج بالنسبة إلى كلاهما الموجب للتنصيف ، وليس مبتنياً على سقوط البيّنتين بالتعارض حتى يقال: إنّ المتعارضين وإن لم يكونا حجّتين في خصوص مدلولهما المطابقي ، إلاّ أنّهما حجّتان بالإضافة إلى نفي الثالث ، الذي هو مدلولهما الالتزامي: وهو التنصيف في المقام . ومضافاً إلى الروايات الواردة في الودعي الدالّة على التنصيف ـ ففي مرسلة ابن المغيرة في رجلين كان معهما درهمان
- (1) رجال النجاشي: 42 رقم 85 .
- (2) مختلف الشيعة: 8 / 387 ـ 388 .
(الصفحة 319)
الخ يقسّم الدرهم الثاني بينهما نصفين(1) . وفي رواية السكوني في رجل استودع رجلا دينارين ، فاستودعه آخر ديناراً ، لصاحب الدينارين دينار ، ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين(2) . إمّا بإلغاء الخصوصية ، وإمّا بالإطلاق الشامل لصورة إقامة البيّنة وغير صورة إقامة البيّنة ـ قيام الشهرة العظيمة(3) على التنصيف الجابرة لسند الرواية الدالّة عليه ، كما لا يخفى . فالقاعدة والنصّ والشهرة متطابقات، فتدبّر .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر (قدس سره) بعد أن حكى عن الرياض أنّه نسب التنصيف إلى الأشهر ، بل عامّة من تأخّر إلاّ نادراً . حكى عنه أنّه قال: خلافاً للمهذّب ، وبه قال جماعة من الفقهاء ، فخصّوا ذلك بما إذا تساويا في الاُمور المتقدّمة كلّها ـ ومراده بالاُمور المتقدّمة تساوي البيّنتين عدداً وعدالةً إطلاقاً وتقييداً واختلافهما في ذلك ـ وحكموا مع الاختلاف فيها لأرجحها ، واختلفوا في بيان المرجّح لها ، فعن المفيد اعتبار الأعدليّة خاصّة هنا ، وإن اعتبر الأكثريّة في غيرها(4) ، وعن الإسكافي اعتبار الأكثرية خاصّة(5) ، وفي المهذّب اعتبارهما مرتّباً بينهما الأعدليّة فالأكثرية(6) ، وعن ابن حمزة اعتباره التقييد أيضاً مردّداً بين الثلاثة غير مرتّب
- (1) التهذيب: 6/208 ح481 وص292 ح809، الفقيه: 3/22 ح59، الوسائل: 18 / 450 ، كتاب الصلح ب9 ح1.
- (2) التهذيب: 6 / 208 ح483 وج7 / 181 ح797 ، الفقيه: 3 / 23 ح63 ، المقنع: 398 ، الوسائل: 18 / 452 ، أبواب الصلح ب12 ح1 .
- (3) لم أجد عاجلا ادّعاء الشهرة العظيمة من أحد ، نعم ادّعى جماعة الأشهر كصاحبي المسالك والرياض .
- (4) المقنعة: 730 .
- (5) مختلف الشيعة: 8 / 388 عن الإسكافي .
- (6) المهذّب البارع: 4 / 494 .