(الصفحة 301)مسألة 8: لو تعارضت البيّنات في شيء ، فإن كان في يد أحد الطّرفين ، فمقتضى القاعدة تقديم بيّنة الخارج ورفض بيّنة الداخل ، وإن كانت أكثر أو أعدل وأرجح ، وإن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج وعدم اعتبار الداخل ، وإن كان في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه ، فالظاهر سقوط البيّنتين والرجوع إلى الحلف أو إلى التنصيف أو القرعة ، لكنّ المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار والأقوال ، وترجيح أحد الأقوال مشكل ، وإن لا يبعد في الصّورة الأولى ما ذكرناه1.
صورة علم الحاكم بذلك ، كما لا يخفى . وليعلم أنّ هذا الفرض لا يكون فرضاً مستقلاًّ في مقابل الفرض الأول ، بل هو جزء منه ، فإنّ الملكية السابقة المفروضة في الفرض الأوّل لابدّ وأن تكون محرزة ، والاحراز قد يكون بقيام البيّنة ، وقد تكون بسبب علم الحاكم بناءً على جواز قضائه بعلمه كما قدّمناه سابقاً ، فهذا الفرض بعض منه ، لا أنّه مغاير له كما يفيد ظاهر العبارة .
الفرض الخامس: قيام البيّنة على أنّ يد زيد غصبية أو عارية أو أمانة أو نحوها من الأيادي غير الملكية ، ولا ينبغي الإشكال في تقدّم البيّنة على اليد; لأنّهما وإن كانتا أمارتين إلاّ أنّ البيّنة مقدّمة على اليد ، كما يظهر من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر(1) . مضافاً إلى أنّ حجّية اليد منحصرة بما إذا لم تكن في مقابلها بيّنة ، وإلاّ لا يجوز الأخذ من السارق والغاصب في صورة عدم العلم ، بل قيام البيّنة كما لا يخفى .
1 ـ هذه المسألة من عويصات المسائل الفقهية وغوامضها ، وقد اضطربت فيها
- (1) تفسير القمّي: 2 / 156 ، الوسائل: 27 / 293 ، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح3 .
(الصفحة 302)
الأقوال واختلفت الروايات ، بل قال السيّد (قدس سره) في الملحقات: قد يختلف فتوى واحد منهم ، فيفتي في مقام ويفتي بخلافه في مقام آخر ، وربّما يدّعي الإجماع في مورد ويدّعي على خلافه الإجماع في مورد آخر ، وقد يحكم بضعف خبر ويعمل به في مورد آخر ، وقد يحملون الخبر على محمل بلا شاهد ويفتون به ، ويفرّقون بين الصور بقيود لا تستفاد من الأخبار من ذكر الشاهد السبب وعدمه ، أو كون الشيء ممّا يتكرّر كالبيع والشراء والصياغة ونحوها ، أو ممّا لا يتكرّر كالنتاج والنساجة والخياطة ونحوها ، وليس الغرض الإزرآء عليهم ، بل بيان الحال مقدّمة لتوضيح الحقّ من الأقوال ، فإنّ المسألة في غاية الإشكال وليست محرّرة(1) ، واللازم الدقّة وإمعان النظر فيها إن شاء الله تعالى .
فنقول: قد فرض في المتن لها صوراً ثلاثة; لأنّ الشيء مورد التنازع تارةً يكون في يد أحد الطرفين ، واُخرى يكون في يدهما ، وثالثة يكون في يد ثالث ، أو لا يد لأحد عليه . وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تقديم أمرين:
أحدهما: أنّ معنى تعارض البيّنتين ثبوت التضادّ بين مفادهما بحيث لم يمكن الجمع والتوفيق بينهما . قال المحقّق (قدس سره) في الشرائع: يتحقّق التعارض في الشهادة مع تحقّق التضادّ ، مثل أن يشهد شاهدان بحقّ لزيد ، ويشهد آخران أنّ ذلك الحقّ بعينه لعمرو ، أو يشهدان بأنّه باع ثوباً مخصوصاً لعمرو غدوة ، ويشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت ، ومهما أمكن التوفيق بين الشهادتين وفّق(2) .
ثانيهما: أنّ مقتضى القاعدة فيما إذا كان المال في يد أحدهما وأقاما البيّنة ، هو
- (1) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 148 مسألة 2 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 897 مسألة 3 .
(الصفحة 303)
تقديم بيّنة الخارج وهو غير ذي اليد; لأنّ مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه أو على من أنكر(1) أنّه في الدرجة الاُولى تلاحظ بيّنة المدّعي الذي هو الخارج ، وتقدّم على طرفه من دون فرق بين ما إذا كانت له بيّنة وما إذا لم تكن له ، وقد حكي عن الرياض ادّعاء الإجماع عليه ، حيث قال: إنّ وظيفة ذي اليد اليمين دون البيّنة ، فوجودها في حقّه كعدمها بلا شبهة ، ولذا لو أقامها بدلا عن يمينه لم تقبل منه إجماعاً إن لم يقمها المدّعي(2) ، وإن أورد عليه السيّد (قدس سره)في الملحقات مضافاً إلى منع الإجماع ، وعموم ما دلّ على حجية البيّنة ، وإلى عموم مثل قوله (صلى الله عليه وآله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(3) بخصوص أخبار المقام ، فإنّ في جملة منها تقديم بيّنة ذي اليد ، كخبر إسحاق وخبر غياث وخبر جابر ، وهو مقتضى إطلاق جملة اُخرى منها ، وأيضاً خصوص خبر حفص بن غياث حيث قال: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم(4) .
وخصوص صحيحة حمّاد الحاكية لأمر عيسى بن موسى في المسعى إذ رأى أبا الحسن موسى (عليه السلام) مقبلا من المروة على بغلة ، فأمر ابن هياج ـ رجلا من همدان منقطعاً إليه ـ أن يتعلّق بلجامه ويدّعي البلغة ، فأتاه فتعلّق باللّجام وادّعى البغلة ، فثنى أبو الحسن (عليه السلام) رجله ونزل عنها وقال لغلمانه: خذوا سرجها وادفعوها إليه .
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 وص 293 ب25 ح3 .
- (2) رياض المسائل: 9 / 405 .
- (3) وسائل الشيعة: 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
- (4) الكافي: 7 / 387 ح1 ، الفقيه: 3 / 31 ح92 ، التهذيب: 6 / 261 ح695 ، الوسائل: 27 / 292 ، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح2 .
(الصفحة 304)
فقال: والسرج أيضاً لي . فقال: كذبت عندنا البيّنة بأنّه سرج محمد بن علي (عليه السلام); وأمّا البغلة فإنّا اشتريناها منذ قريب وأنت أعلم وما قلت(1) ، إلى آخر ما أفاده(2) .
وإن كان يمكن الجواب عن جميع إيراداته ; بأنّ منع دعوى الإجماع ـ مع تعبير صاحب الرياض أنّ وجود البيّنة كعدمها بلا شبهة ـ غير تامّ ، وعموم ما دلّ على حجّية البيّنة قابل للتخصيص ، وقوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» لا يراد منه إلاّ الحصر الإضافي في مقابل القضاء بالعلم الواقعي الثابت للرسول (صلى الله عليه وآله) ، ولا دلالة له على أنّ اعتبار البيّنة بالإضافة إلى من واليمين بالنسبة إلى من، وإلاّ لكان مفاده حجّية يمين المدّعي ابتداءً ، كما لا يخفى . وأمّا أخبار المقام خصوصاً أو اطلاقاً فسيأتي البحث فيها .
وأمّا خبر حفص بن غياث ، فمفاده جواز الشهادة بتملّك ذي اليد; نظراً إلى أنّ اليد كما عرفت أمارة عقلائية وشرعية على الملكية ، والسائل إنّما يسأل عن جواز الشهادة بالملك ، التي يترتّب عليها آثار كثيرة: مثل صحّة الابتياع من ذي اليد وأمثاله ، ولا إشعار في الرواية بفرض وجود المعارضة وأنّه معها تتقدّم بيّنة ذي اليد ، وبعبارة اُخرى محطّ نظر السائل أنّه يجوز المغايرة في الشهادة تحمّلا أداءً أم لا يجوز أصلا ، كما لا يخفى .
وأمّا صحيحة حمّاد ـ الحاكية لما عرفت من قصّة موسى بن جعفر (عليهما السلام) ـ فالظاهر أنّ قول الإمام (عليه السلام) إنّما هو في مقابل خصمه الذي لم يكن يعتقد بإمامته، وإلاّ لا يتنازع مع الإمام المعصوم الصادق في كلّ ما يقول ، مع أنّه لم يكن هناك قاض ولا
- (1) الكافي: 8 / 86 ح48 ، الوسائل: 27 / 291 ، أبواب كيفيّة الحكم ب24 ح1 .
- (2) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 153 .
(الصفحة 305)
حاكم ، ومن الممكن عدم اقتناعه باليمين التي هي وظيفته; فلذا تمسّك الإمام (عليه السلام)بوجود البيّنة بالنسبة إلى السرج ، وأنّه لا يكون لمن يدّعيه ، بخلاف أصل البغلة التي كان اشتراها عن قريب ولم يكن له بيّنة عليه ، وإلاّ فبالإضافة إلى كلّ منهما كان ذا اليد .
وبالجملة: فمقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه» ـ بلحاظ أنّ التفصيل قاطع للشركة ـ تعيّن البيّنة على المدّعي ، وتعيّن اليمين على من ادّعي عليه ، لا أنّ الوظيفة اللزومية الابتدائية كذلك ، وثبوت اليمين على المدّعي في بعض الموارد بضميمة البيّنة أو بدونها كما في اليمين المردودة أو اليمين الاستظهارية لا دلالة له على كون مفاد قوله (صلى الله عليه وآله) غير ما ذكرنا .
فالإنصاف تمامية ما أفاده صاحب الرياض .
ويؤيّده خبر منصور قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): رجل في يده شاة فجاء رجل فادّعاها ، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده ، لم يهب ولم يبع ، وجاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده ، لم يبع ولم يهب ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): حقّها للمدّعي ، ولا أقبل من الذي في يده بيّنة; لأنّ الله عزّوجلّ انّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي ، فإن كانت له بيّنة ، وإلاّ فيمين الذي هو في يده ، هكذا أمر الله عزّوجلّ(1) .
والمرسل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان ، أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما ، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان ، وإن كان في يد أحدهما ، فانّما
- (1) التهذيب: 6/240 ح594 ، الإستبصار: 3/43 ح143 ، الوسائل: 27 / 255 ، أبواب كيفيّة الحكم ب12 ح14.