(الصفحة 11)معنى القضاء اصطلاحاً
وامّا بحسب الاصطلاح الذي لا يراد به إلاّ الاصطلاح الفقهيّ ، لا الحقيقة الشرعيّة ، بل ولا المتشرعية; لأنّ مورد بحثهما هو ألفاظ العبادات مثل الصلاة والصيام والحجّ ، دون المعاملات بالمعنى الأعم أو الأخص مثل البيع ونحوه ، فإنّه لا يراد منها إلاّ المعاني العقلائيّة العرفيّة المتداولة ، غاية الأمر اعتبار الشارع فيها بعض الاُمور نفياً وإثباتاً كالنهي عن بيع الغرر ، وإلاّ فالمراد من مثل قوله تعالى :
{وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ}(1) هو البيع العرفي العقلائي ، وإلاّ يلزم أن يكون مثل الضرورية بشرط المحمول; لأنّ الحكم بأنّه أنفذ الله البيع الشرعي يرجع إلى ذلك .
وكيف كان ، فقد عرّفه في محكي المسالك(2) والرياض(3) والكشف(4) والتنقيح(5)ومثلها بأنّه عبارة عن ولاية الحكم شرعاً لمن له أهليّة الفتوى بجزئيّات القوانين الشرعيّة على أشخاص معيّنين من البريّة بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق . وعرّفه في محكي الدروس(6) بأنّه ولاية شرعيّة على الحكم وعلى المصالح العامّة من قبل الإمام (عليه السلام) .
والتعريفان مشتركان في جعل القضاء بمعنى الولاية ، لا نفس الحكم كما في المتن ونحوه . وذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) في رسالة القضاء : أنّ إدراج الولاية مبني على
- (1) سورة البقرة 2 : 275 .
- (2) مسالك الأفهام : 13 / 325 .
- (3) رياض المسائل : 9 / 233 .
- (4) كشف اللّثام : 2 / 320 (ط ق) .
- (5) التنقيح الرائع: 4 / 230.
- (6) الدروس الشرعيّة : 2 / 65 .
(الصفحة 12)
جعل القضاء من المصادر المستعملة في شأنية المبدأ ومنصبه ، كما في لفظ الحكومة والإمارة والوزارة ونحوها لا في نفس المبدأ ، فالمنصب في هذه المبادئ نظير الملكة في الكتابة ونحوها . وهذا الاستعمال وإن كان شائعاً في كثير من المصادر ، وملحوظاً في لفظ القاضي إلاّ أنّه قليل في خصوص لفظ القضاء ، بل ربّما يعبّر عنه عرفاً بالقضاوة ، وإن لم يسمع هذا الوزن في كلام أهل اللغة(1) .
وذكر المحقّق العراقي في رسالته في القضاء ـ بعد استظهار كون القضاء عبارة عن الولاية; لظهور تعلّق الجعل به في كونه من الاُمور الجعليّة ، مضافاً إلى كفاية هذا المقدار في صدق القاضي ولو لم يتلبّس بعد بالقضاء أصلا ـ ما ملخّصه : أنّه يمكن أن يقال : بأنّ مجرّد صدق القاضي بمجرّد الجعل لا يقتضي كون المبدأ فيه بمعنى الولاية المزبورة ، إذ ربما تكون الهيئة الاشتقاقيّة مقتضية لتوسعة النسبة ، وغير مانعة من بقاء المبدأ على معناه من الحكم الفعليّ الحقيقي ، كلفظي الحكم والحاكم .
ومن هذا الباب الفرق بين عنوان التجارة والتاجر ، فيكشف ذلك عن أنّه من جهة توسعة في مدلول الهيئة ، لا أنّه خلاف في مفهوم المادّة ، ومرجع ما ذكرنا في الحقيقة إلى الالتزام بتوسعة في دائرة التلبّس الفعلي ، لا الالتزام بتوسعة في المفهوم الصادق حتى على المتلبّس سابقاً; كي يكون خلاف التحقيق(2) .
وكيف كان ، فتعريف القضاء بنفس الحكم الظاهر في الحكم الحقيقي الفعلي كما في المتن ليس على ماينبغي، بل الظاهر ماذكره المشهور والدروس من التعريف بالولاية المتحقّقة بنفس الجعل ، وإن لم يتحقّق التلبّس فضلا عن المنقضى عنه ، كما لايخفى .
- (1) رسالة القضاء (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 25 ـ 26 .
- (2) رسالة القضاء للمحقّق العراقي : 3 / 4 .
(الصفحة 13)
نعم ذكر صاحب الجواهر(1) وبعض تلامذة الشيخ الأنصاري : أنّ تعريف الدروس أرجح; لشموله لحكم الحاكم بثبوت الهلال; لأنّه من المصالح العامّة ، مع أنّ الظاهر أنّ مجرّد الشمول لا يقتضي الترجيح إلاّ بعد ثبوت كونه من مصاديق القضاء . ومن الظاهر عدمه لو لم نقل بعدم كونه منها أصلا ، كما لايخفى .
بقي الكلام في أمرين
أحدهما : أنّ الحكم سواء كان القضاء عبارة عن نفسه ، أو الولاية عليه عبارة عن وجوده الإنشائي الذي يحصل تارة بمثل قوله : «حكمت» ، واُخرى بالقول أو الفعل الدالّ عليه سواء كان هو الكتابة أو غيرها ، مثل الاُمور الاعتبارية الحاصلة بمثل ذلك كالبيع ، الذي يحصل بإنشاء التمليك بقول : «بعت» وشبهه ، ويحصل بالمعاطاة ونحوها ، فإنّ الّتمليك الحاصل بالبيع أمر اعتباريّ عقلائيّ وشرعيّ ، وموضوع الأحكام كثيرة وآثار غير عديدة ، وكذا النكاح ونحوه ، إلاّ فيما قام دليل خاصّ على عدم جريان مثل المعاطاة فيه ، وكذا المقام ، فإنّ الحكم يحصل تارة بمثل قول : «حكمت» في مقام فصل الخصومة ورفع التنازع ، واُخرى بقول آخر أو فعل آخر ، كالرأي الثابت في زماننا الحاصل بالكتابة من دون أن يكون القاضي متلفّظاً أصلا .
ثانيهما : الفرق بين القضاء والفتوى عبارة عن أنّ الفتوى هي بيان الأحكام الكلّية والكبريات العامّة من دون نظر إلى التطبيق على الموارد وبيان المصاديق ، ففي قوله : «الخمر حرام» تكون الفتوى عبارة عن الحكم بالحرمة الثابتة للخمر ،
- (1) جواهر الكلام : 40 / 9 .
(الصفحة 14)
وأمّا أنّ أيّ مايع خمر خارجاً أو لا يكون خمراً ، فهو لا يرتبط بالمجتهد ومن إليه رجع في التقليد ، فإذا قال المجتهد : «هذا المايع خمر» ، فلا يكون قوله حجّة من جهة الاجتهاد والمرجعيّة ، بل يكون من مصاديق شهادة العادل الواحد في الموضوعات الخارجيّة ، والحجّية وعدمها محلّ خلاف . وقد أثبتنا في قواعدنا الفقهيّة عدم الحجّية; وأنّ جعل حجّية البيّنة ناف لحجّيّته بعد كون الأمرين من سنخ واحد ، والفارق التعدّد وعدمه ، بخلاف جعل الحجّيّة للاستصحاب مثلا في مقابل البيّنة فراجع(1) .
وكيف كان فقول المجتهد وشهادته لا يكون حجّة إلاّ من هذا الباب .
وأمّا القضاء فهو الحكم في القضايا الشخصيّة التي هي مورد التشاجر والترافع ، كحكم القاضي بأنّ المال الفلاني لزيد ، أو أنّ المرأة الفلانيّة زوجة عمرو وهكذا . وبعبارة اُخرى أنّ القضاء الذي هو عبارة عن الحكم ، أو الولاية عليه عبارة عن الأمر الإنشائي الاعتباري وقد مرّ ، والفتوى عبارة عن الإخبار عن النظر والرأي الحاصل بالاستنباط عن المنابع الّلازمة والأدلّة الواردة .
نعم ذكر بعض الأعلام (قدس سره) أنّه قد يكون منشأ التّرافع الاختلاف في الفتوى ، كما إذا تنازعت الورثة في الأراضي ، وادّعت الزوجة ذات الولد الارث منها ، وادعى الباقي حرمانها فتحاكما لدى القاضي ، فإنّ حكمه يكون نافذاً عليهما ، وإن كان مخالفاً لفتوى من يرجع إليه المحكوم عليه(2) .
أقول : ومنه يظهر أنّ كتاب القضاء ومسألة فصل الخصومة ليس من شعب الأمر
- (1) القواعد الفقهيّة : 1 / 476 ـ 479 .
- (2) مباني تكملة المنهاج : 1 / 3 ـ 4 .
(الصفحة 15)ومنصب القضاء من المناصب الجليلة الثابتة من قبل الله تعالى للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن قبله للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، ومن قبلهم للفقيه الجامع للشرائط الآتية . ولا يخفى أنّ خطره عظيم . وقد ورد «أنّ القاضي على شفير جهنم» ، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه قال : «ياشريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» (1) ، وعن أبي عبدالله (عليه السلام) : «اتقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» (2) ، وفي رواية «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزّوجلّ فقد كفر» (3) ، وفي «لسان اُخرى القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا
بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما نسب إلى صاحب الجواهر (قدس سره) وبعض آخر(4) . فإنّ المدّعي والمنكر في مثل المثال المذكور ليسا تاركين للمعروف والعاملين بالمنكر ، بل في كمال التعهّد والايمان والعمل بأحكام الإسلام ، غاية الأمر أنّ منشأ ترافعها وتخاصمهما هو اختلاف المجتهدين المقلّدين ، وقد يتّفق الترافع والتنازع في صورة الاشتباه والنسيان ، فيدّعي كلّ من زيد وعمرو ملكيّة الدار التي هي في يد زيد مثلا مع عدم كون عمرو من المريدين لأكل مال الغير والتصرّف فيه بوجه ، بل يعتقد ملكيّته إرثاً مثلا وزيد كذلك ، فيقع الاشتباه وعقيبه التخاصم والتشاجر ، مع أنّ مثل المورد لا يكون داخلا في ذلك الباب أصلا ، نعم قد يقع الادّعاء أو الإنكار مع العلم وعدم الاشتباه ، لكنّه لا يكون تمام مورد القضاء ، كما لايخفى .
- (1) الوسائل : 27 / 17 ، أبواب صفات القاضي ب3 ح2 .
- (2) الوسائل : 27 / 17 ، أبواب صفات القاضي ب3 ح3 .
- (3) الوسائل : 27 / 34 ، أبواب صفات القاضي ب5 ح13 .
- (4) جواهر الكلام : 40 / 38 ـ 39 .