(الصفحة 28)مسألة 5 : يجوز لمن لم يتعيّن عليه القضاء الارتزاق من بيت المال ولو كان غنيّاً ، وإن كان الأولى الترك مع الغنى ، ويجوز مع تعيّنه عليه إذا كان محتاجاً ، ومع كونه غنيّاً لا يخلو من إشكال ، وإن كان الأقوى جوازه . وأمّا أخذ الجعل من المتخاصمين أو أحدهما فالأحوط الترك حتّى مع عدم التعيّن عليه ، ولو كان محتاجاً يأخذ الجعل أو الأجر على بعض المقدّمات1.
نعم(1) . وغير ذلك من الروايات التي يكون مقتضاها الإطلاق ، ولو يكن حرج .
1 ـ إنّ هنا عناوين ثلاثة : الارتزاق من بيت المال ، والأجر أو الجعل على نفس القضاء والرشوة ، وسيأتي حكم العنوان الثالث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى . وأمّا الارتزاق من بيت المال المعدّ لمصالح المسلمين ، التي من عمدتها القضاء وفصل الخصومة ، فلا ينبغي الإشكال في جوازه للقاضي ، سواء كان القضاء واجباً عليه متعيّناً أو كفائيّاً إذا كان محتاجاً ، وفي صورة الغنى عنه أيضاً يجوز; لأنّه لا دليل على المنع وإن كان الأحوط الترك .
وأمّا الأجر والجعل على نفس القضاء فربّما يقال : إنّ مقتضى القاعدة عدم الجواز; لأنّ القضاء واجب وأخذ الاُجرة على الواجب حرام ، ولكنّه لو سلّمنا وجوب القضاء ، ولم نناقش بما ذكرناه سابقاً من أنّه لم يقم دليل لفظيّ على الوجوب أصلا ، لكن حرمة أخذ الاُجرة على الواجب محلّ بحث وكلام ، وقد ذكرنا هذه المسألة في قواعدنا الفقهيّة مفصّلة فراجع(2) . نعم ربّما يقال بقيام الدليل على الحرمة بالخصوص وهما روايتان :
- (1) الكافي 7 : 440 ح4 ، التهذيب : 8 / 285 ح1048 ، الوسائل : 23 / 224 ، كتاب الأيمان ب12 ح1 .
- (2) القواعد الفقهيّة : 1 / 509 ـ 533 .
(الصفحة 29)
إحداهما : صحيحة عمّار بن مروان قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : كلّ شيء غلّ(1)من الإمام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها : ما اُصيب من أعمال ولاة الظّلمة ، ومنها : اُجور القضاة واُجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر ، والربا بعد البيّنة . فأمّا الرشا ياعمّار في الأحكام فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله(2) . نظراً إلى ظهور الرواية في أنّ اُجور القضاة مطلقاً سحت ، أي ولو كان قضاؤه مقروناً بالوجدان للشرائط ، والجمع المحلّى بالّلام يفيد العموم .
ولكنّه ناقش في ذلك بعض الأعلام ، واستظهر أنّها ناظرة إلى الاُجور التي كان القضاة يأخذونها من الولاة الظلمة ، والذي دعاه إلى ذلك عدم تكرار كلمة «منها» في أجور الفواجر وما بعده من الجمل ، ولأجله قال : إنّ الظّاهر أنّ الضمير في قوله (عليه السلام) : «ومنها اُجور القضاة» يرجع إلى الموصول في جملة «ما اُصيب من أعمال الولاة» ومعنى ذلك أنّ الأموال التي تصاب من أعمال الولاة التي منها اُجور القضاة سحت ، فلا دلالة فيها على أن الأجر على القضاء محرّم مطلقاً ، حتى إذا لم يكن القاضي من عمّال ولاة الجور وكان قضاؤه حقّاً(3) .
والظاهر بطلان المناقشة المذكورة; لأنّها يرد عليها ـ مضافاً إلى كونها خلاف الظاهر جدّاً ـ أنّ لازمها الاقتصار في مقام بيان أنواع السحت التي وصفها بالكثرة على بيان نوعين أو نوع واحد . والظاهر أنّ الأعمال جمع عمل ، وأنّ جمع العامل عمّال لا أعمال ، والعمدة أن جعل ما الموصولة في قوله (عليه السلام) : «ما اصيب» تارة مذكّراً
- (1) الغل : الخيانة الخفيّة ، سيّما في الغنيمة .
- (2) معاني الأخبار : 211 ح2 ، الخصال : 329 ح26 ، تفسير العيّاشي : 1 / 321 ح115 ، الوسائل : 17/ 95 ، أبواب ما يكتسب به ب5 ح12 .
- (3) مباني تكملة المنهاج : 1 / 5 .
(الصفحة 30)مسألة 6 : أخذ الرشوة وإعطاؤها حرام ، إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل . نعم لو توقّف التوصّل إلى حقّه عليها جاز للدافع وإن حرم على الآخذ ، وهل يجوز الدفع إذا كان محقّاً ، ولم يتوقّف التوصّل إليه عليها؟ قيل : نعم ،
وإرجاع ضميره إليه كما في قوله : «اُصيب» واُخرى مؤنّثاً وإرجاع ضمير التأنيث إليه كما في قوله (عليه السلام) : «ومنها اُجور القضاة» بناءً على هذا الاستظهار في كمال خلاف الظاهر ، والسّر في عدم تكرار «منها» في الجملات البعديّة لزومه كثيراً ، ولا يناسب مقام المتكلّم الأديب سيّما الإمام (عليه السلام) ، ولكنّه مع ذلك لا يبعد أن يقال : إنّ «القضاة» لادلالة لها على العموم ، بل الألف واللام فيها إشارة إلى القضاة المعهودين في تلك الأزمنة ، وهم قضاة الجور ، ولا دلالة للرواية على أزيد من حرمة اُجورهم ، كما لايخفى .
ثانيتهما : صحيحة عبدالله بن سنان قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فقال : ذلك السّحت(1) . وظهور دلالتها على الحرمة في قاضي الجور المنصوب من قبل سلطان الجور لا يكاد ينكر ، ولا دلالة لها على الحرمة مطلقاً .
مع أنّ هنا بعض ما يدلّ على الجواز ، مثل : قول علي (عليه السلام) فيما عهده إلى مالك الأشتر حين ولاّه مصر ، فإنّ فيها بعد ذكر صفات القاضي قال : وأكثر تعاهد قضائه ، وافسح له في البذل ما يزيح علّته ، وتقلّ معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره(2) . وغير ذلك من الروايات الدالّة على الجواز .
- (1) الكافي : 7 / 409 ح1 ، التهذيب : 6 / 222 ح527 ، الوسائل : 27 / 221 ، أبواب آداب القاضي ب8 ح1 .
- (2) الوسائل : 27 / 224 ، أبواب آداب القاضي ب8 ح9 .
(الصفحة 31)والأحوط الترك ، بل لا يخلو من قوّة . ويجب على المرتشي إعادتها إلى صاحبها من غير فرق في جميع ذلك بين أن يكون الرشاء بعنوانه أو بعنوان الهبة أو الهديّة أو البيع المحاباتي ونحو ذلك1.
1 ـ لا شبهة في حرمة إعطاء الرشوة ـ مثلثة ـ وأخذها في الجملة ، ولها فروض وصور :
الاُولى : ما إذا كان الغرض والهدف من إعطائها للقاضي التوصّل بسببها إلى الحكم له بالباطل ، وهذا هو القدر المتيقّن من الرشوة المحرّمة ، وحكي عن جامع المقاصد والمسالك إجماع المسلمين عليه(1) ، ويدلّ عليه قبل الإجماع الكتاب والسنّة ، قال الله تعالى :
{وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ}(2) وهو ظاهر في حرمة الإعطاء; لكونه من مصاديق أكل المال بالباطل ، فيحرم الأخذ أيضاً .
ولعلّ الوجه في الحرمة ـ مضافاً إلى كونها وسيلة لأكل أموال الناس ـ أنّ أمر القضاء الشرعي إنّما هو لإقامة العدل وحفظ أموال الناس وعدم تضييع الحقوق ، فالشارع لا يرضى قطعاً بما يوجب سلب ذلك أخذاً وإعطاء ، وتضييع أموال الناس وحقوقهم ، وهذا واضح .
الثانية : ما إذا كان الغرض التوصّل بها إلى حقّه ، وكان طريقه منحصراً إلى ذلك ، ولا سبيل له على التوصّل إلى حقّه غير ذلك ، فالظّاهر الجواز للدافع وعدمه للآخذ ، وذلك لأنّ الرشوة وإن كانت محرّمة ، ومرتبةُ الحرمة فيها وإن
- (1) جامع المقاصد : 4 / 35 ، المسالك : 3 / 136 .
- (2) سورة البقرة 2 : 188 .
(الصفحة 32)
كانت عالية حتى إنّه عدّ كفراً أو شركاً بالله العظيم في النصوص والروايات ، إلاّ أنّه قد يعرض ما يوجب الجواز ، مثل ما إذا صارت مكرهاً عليها بالإكراه الذي يكون التوعيد فيه أهمّ أو مساوياً لحرمة الرشوة ، ومثل ما إذا انحصر طريق استيفاء الحقّ على الرّشوة ، فإنّها تصير حينئذ جائزة للدافع وإن كانت محرّمة على الآخذ ، وقد تقدّم ما يدلّ على جواز الحلف كاذباً لمن يريد حفظ ماله وإن لم يكن حرجيّاً .
الثالثة : ما إذا لم يكن الطريق منحصراً إلى ذلك ، ولكن كان الدافع محقّاً في ذلك ربّما يقال كما عن الفاضلين وصاحب المسالك بالجواز(1) ، نظراً إلى اختصاص عنوان الرشوة بالحكم بالباطل ، ولكن عن مفتاح الكرامة أنّ الرشوة عند الأصحاب ما يعطى للحكم حقّاً وباطلا(2) ، وإنّ المتفاهم العرفي أيضاً من الرشوة هو الأعمّ ، نعم عن مجمع البحرين قلّما تستعمل الرشوة إلاّ فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل(3) .
ومن الروايات التي يستفاد منها عموميّة الرشوة حتى لغير باب القضاء صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه؟ قال : لابأس به(4) ، فلا ينبغي الإشكال في صدق عنوان الرشوة عليه ، فيشمله مثل قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مروان
- (1) تحرير الأحكام : 2 / 180 ، قواعد الأحكام : 2 / 205 ، شرائع الإسلام : 4 / 869 ، المسألة السادسة عشرة ، مسالك الأفهام : 13 / 421 .
- (2) مفتاح الكرامة : 10 / 33 .
- (3) مجمع البحرين مادة (رشا) .
- (4) التهذيب : 6 / 375 ح1095 ، الوسائل : 17 / 278 ، أبواب ما يكتسب به ب85 ح2 .