(الصفحة 380)مسألة 21: إنّما يجوز التقاص إذا لم يرفعه إلى الحاكم فحلّفه ، وإلاّ فلا يجوز بعد الحلف ، ولو اقتص منه بعده لم يملكه1.
ثمّ إنّه ربّما يقال بقصور أدلّة المقاصة عن الدلالة على جوازها من غير جنس حقّه; نظراً إلى صحيحة أبي بكر الحضرمي المتقدّمة الواردة في الدراهم من الطرفين ، وصحيحة داود بن رزين المتقدّمة المشتملة على قوله: «خذ مثل ذلك»(1) ، مضافاً إلى آية الاعتداء(2) والمعاقبة(3) المشتملتين على التعبير بالمماثلة ، ولا تصدق المماثلة فيما إذا كان المطلوب عيناً واُريد التقاص من الحقّ ، ولكن ضعف هذا القول ظاهر بعد وضوح أنّ المراد بالمماثلة هي المماثلة في المقدار ، بمعنى عدم الزيادة على المطلوب ، وإلاّ يلزم عدم استفادة مشروعية التقاص فيما إذا لم يتمكّن من الجنس من أمثال هذه الأدلّة ، مع أنّه من الواضح خلافه ، بل يلزم عدم مشروعية المقاصة في مقدار أقلّ من الحقّ .
1 ـ غير خفي أنّه إذا رفع الأمر إلى الحاكم ولم يكن بيّنة للمدّعي ، ووصلت النوبة إلى حلف المدّعى عليه فحلّفه الحاكم وحلف ، وحكم الحاكم على طبق حلفه بعدم كونه غاصباً أو مديوناً ، لا يجوز للدائن ـ وإن كان يرى نفسه فيما بينه وبين الله دائناً ـ المقاصة من مال المديون; لاقتضاء فصل الخصومة الحاصل بحكم الحاكم ذلك ، وإن كان لا يصير الغاصب مالكاً للعين واقعاً ، والمديون بريئاً من الدين كذلك ، وقد ورد في بعض الروايات النبوية الصحيحة المشتملة على قوله (صلى الله عليه وآله): إنّما
- (1) تقدّمتا في ص348.
- (2) سورة البقرة 2: 194 .
- (3) سورة النحل 16: 126 .
(الصفحة 381)
أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(1) ما هو مفاده أنّه لو قضيت لكم بخلاف الواقع لا يصير المحكوم له مالكاً واقعاً ، بل إنّما قطع له قطعة من النار . ومع اقتضاء القاعدة ذلك فقد وردت في المسألة أيضاً روايات:
منها: رواية خضر النخعي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً ، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه(2) .
ومنها: رواية ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه ، فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي ، فلا دعوى له . قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم وإن أقام بعدما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له ، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه(3) .
ولا يخفى أنّ المراد بذهاب اليمين بحقّ المدّعي ، كما يظهر من تفريع قوله: «فلا دعوى له» هو الذهاب من جهة إقامة الدعوى أو التقاص أو مثلهما لا ذهابها به واقعاً .
كما أنّه لا خصوصية لنفي الدعوى في التفريع ، بل كلّ ما يترتّب على دعواه فلا يجوز بيعه أيضاً ، كما أنّ المراد من إقامة البيّنة هي الإقامة قبل حلف المنكر ، وإلاّ فلا تصل النوبة إلى الحلف ، كما تقدّم(4) .
- (1) الكافي: 7 / 414 ح1 ، التهذيب: 6 / 229 ح552 ، الوسائل: 27 / 232 ، أبواب كيفية الحكم ب2 ح1 .
- (2) الكافي: 7 / 418 ح2 ، التهذيب: 6 / 231 ح566 ، الوسائل: 27 / 246 ، أبواب كيفية الحكم ب10 ح1 .
- (3) الكافي: 7 / 417 ح1 ، التهذيب: 6 / 231 ح565 ، الوسائل: 27 / 244 ، أبواب كيفية الحكم ب9 ح1 .
- (4) تقدّم في المسألة 11 من مسائل «القول في الجواب بالانكار» .
(الصفحة 382)
لكن في صحيحة أبي بكر الحضرمي المتقدّمة الدالّة على مشروعية المقاصة قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها الخ(1) ، وظاهرها أنّ «حلف» بصيغة المبني للفاعل . وقد حملها السيّد في الملحقات على حلف الغريم من عنده ، أو باستحلاف المدّعي وحلفه دون تحليف الحاكم(2) .
إن قلت: إنّ السؤال فيها مطلق ، وترك الاستفصال في الجواب دليل الإطلاق .
قلت: لو سلّم ذلك ولم نقل بانصرافه عن الحلف عقيب استحلاف الحاكم لابدّ من حمل الإطلاق بقرينة الروايتين على ما إذا لم يكن هناك استحلاف من الغارم بتوسط الحاكم ، كما لا يخفى .
وهنا رواية ظاهرة في أنّه لو رضي المدّعي بحلف المدّعى عليه يكفي ذلك في عدم جواز المقاصّة ، وإن لم يكن في البين ترافع إلى الحاكم ، وهي رواية عبدالله بن وضّاح قال: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم ، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة ، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها ، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف ، وقد وقع له عندي مال فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت . فكتب: لا تأخذ منه شيئاً إن كان ظلمك فلا تظلمه ، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنّك رضيت بيمينه وقد ذهبت اليمين بما فيها ، فلم آخذ منه شيئاً ، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام)(3) .
- (1) في ص348 .
- (2) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 216 .
- (3) الكافي: 7 / 430 ح14 ، التهذيب: 6 / 289 ح802 ، الوسائل: 27 / 246 ، أبواب كيفية الحكم ب10 ح2 .
(الصفحة 383)مسألة 22: يستحب أن يقول عند التقاص: «اللهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي ، وإنّي لم آخذ الذي أخذته خيانةً ولا ظلماً» . وقيل: يجب ، وهو أحوط1.
ولكن لو قطعنا النظر عن هذه الرواية من جهة السند لكان الحكم فيما لو كان الحلف بإذن الحاكم ما ذكرنا .
1 ـ قد عرفت اشتمال صحيحة أبي بكر الحضرمي الدالّة على مشروعية المقاصّة ، المشتملة على قوله: «ولكن لهذا كلام» على الدّعاء المزبور ، وظاهرها وإن كان هو الوجوب إلاّ أنّها محمولة على الاستحباب ، ويؤيّده مضافاً إلى أنّ الغرض من المقاصة التوصل إلى الحقّ ، وهو لا يتوقف على الدعاء المزبور ، بل تتقوّم بالأخذ مع القصد بينه وبين الله تعالى ، وإلى اختلاف الدعاء في روايتي أبي بكر ، ففي إحداهما ما هو المذكور في المتن ، وفي الاُخرى كما تقدّم: اللهمّ إني لا آخذه «لم آخذه لن أخذه» ظلماً ولا خيانة، وانّما أخذته مكان مالي الذي اُخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً(1) ، وإن كان يدفعه أنّ الاختلاف إنّما يدلّ على الاستحباب فيما إذا كانت الروايات متعدّدة .
وقد عرفت أنّ الروايتين أو الروايات لأبي بكر الحضرمي لا تكون متعدّدة ، وإن جعلها في الوسائل وبتبعها الكتب الفقهية كذلك ـ وعليه فلا دلالة للاختلاف على الاستحباب لخلوّ أكثر أدلّة مشروعية التقاص عن هذا الدعاء ، ولا مجال لدعوى كون أكثرها ضعيفاً سنداً; لوجود روايات صحيحة فيها ، مضافاً إلى آيتي
- (1) الكافي: 5 / 98 ح3 ، الفقيه: 3 / 114 ح486 ، التهذيب: 6 / 197 ح439 ، الإستبصار: 3 / 52 ح169 ، الوسائل: 17 / 274 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح5 .
(الصفحة 384)
الاعتداء(1) والمعاقبة(2) .
ويؤيّده ذهاب المشهور إلى الاستحباب(3)، مع أنّه يحتمل عدم دلالة رواية أبي بكر على الوجوب ، وقوله (عليه السلام): «ولكن لهذا كلام» لا دلالة له عليه ، بل هو إرشاد وبيان لطريق المقاصّة، وأنّه في النيّة لابدّ وأن تكون كذلك، خصوصاًمع قصد عدم الازدياد.
وقد عرفت أنّه يعتبر في المقاصة مضافاً إلى الأخذ القصد(4) ; لأنّ الآخذ ربّما لا يكون له قصد المقاصّة; لعدم اقتضاء شأنه ذلك أو لغيره من الجهات ، وعليه يمكن أن يكون ذلك منشأً لفتوى المشهور لاوقوفهم على قرينة خاصة على عدم الوجوب.
ويؤيّد عدم الوجوب أنّه إن كان المراد التلفّظ بهذا الدعاء باللغة العربية فربما لا يكون المقتص عارفاً بهذه اللغة ، واستحباب مجرّد التلفّظ بها فضلا عن الوجوب مستبعد جدّاً . وإن كان المراد التلفظ بمفادها من أيّة لغة كانت فهو يناسب الاستحباب ، دفعاً لتوهّم أنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه مطلقاً ، أو خصّ لنفسه ما زاد عن مقدار حقّه أيضاً ، كما لايخفى .
ثمّ إنّه لم يعلم أنّ القائل بالوجوب هل أراد الوجوب الشرطي الراجع إلى مدخلية الدعاء المزبور في صحّة المقاصة ، أو أراد الوجوب النفسي عند إرادتها؟ والأوّل في غاية البعد كما لا يخفى .
ويؤيّد عدم الوجوب انّ الصدوق بعد روايته خبر أبي بكر الحضرمي قال: وزاد في خبر آخر ما هو مفاده: أنّه إن استحلفه المديون على عدم أخذه ماله بعنوان
- (1) سورة البقرة 2: 194 .
- (2) سورة النحل 16: 126 .
- (3) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 216 .
- (4) في ص370 .