(الصفحة 379)مسألة 20: تجوز المقاصّة من العين أو المنفعة أو الحقّ في مقابل حقّه من أيّ نوع كان ، فلو كان المطلوب عيناً يجوز التقاصّ من المنفعة إذا عثر عليها أو الحقّ كذلك وبالعكس1.
حقّ له على الغريم ، وأنّه لم يكن له حقّ عليه عند المقاصّة ، ويجب عليه حينئذ ردّ ما أخذه إن كان موجوداً ولم يتحقّق نقله إلى الغير ، وردّ عوضه مثلا أو قيمته لو تلف أو نقل إلى الغير بالنقل اللازم من دون فرق بين أن يكون الخطأ في الحكم أو الموضوع ، والوجه فيه واضح .
الثانية: ما إذا تبيّن له بعد المقاصّة أنّ المأخوذ لم يكن ملكاً للغريم بل لغيره ، وكان يعتقد أنّه ملك للغريم . ومن المعلوم أنّه لم تتحقق المقاصّة حينئذ; لأنّه لا معنى لها بالإضافة إلى مال الغير ، وإن كان من حواشيه كأبيه أو ابنه مثلا فيجب عليه ردّه أو ردّ عوضه مثلا أو قيمته لو تلف أو مثله .
1 ـ لا تعتبر في المقاصّة إلاّ المماثلة في المالية ، ولا تعتبر المماثلة من جهة العين أو المنفعة أو الحقّ ، فلو كان المطلوب عيناً يجوز التقاص من المنفعة إذا عثر عليها أو الحقّ كذلك وبالعكس ، بل لا تعقل المماثلة من جميع الجهات في بعض صور المقاصّة ، فإذا كان المطلوب عيناً لا تتحقق المماثلة معها في الجميع خصوصاً بعد كون خصوصيات العين مقصورة ، فالمعتبر في المقاصة المماثلة في المالية .
نعم قد عرفت أنّه مع إمكان المقاصة من المثل في المثلي الكلي ، يشكل التقاص من جنس آخر ، كالتقاص من الشعير فيما لو كان عليه حنطة مع إمكان التقاص من الحنطة التي هي من جنسها(1) ، كما لا يخفى .
(الصفحة 380)مسألة 21: إنّما يجوز التقاص إذا لم يرفعه إلى الحاكم فحلّفه ، وإلاّ فلا يجوز بعد الحلف ، ولو اقتص منه بعده لم يملكه1.
ثمّ إنّه ربّما يقال بقصور أدلّة المقاصة عن الدلالة على جوازها من غير جنس حقّه; نظراً إلى صحيحة أبي بكر الحضرمي المتقدّمة الواردة في الدراهم من الطرفين ، وصحيحة داود بن رزين المتقدّمة المشتملة على قوله: «خذ مثل ذلك»(1) ، مضافاً إلى آية الاعتداء(2) والمعاقبة(3) المشتملتين على التعبير بالمماثلة ، ولا تصدق المماثلة فيما إذا كان المطلوب عيناً واُريد التقاص من الحقّ ، ولكن ضعف هذا القول ظاهر بعد وضوح أنّ المراد بالمماثلة هي المماثلة في المقدار ، بمعنى عدم الزيادة على المطلوب ، وإلاّ يلزم عدم استفادة مشروعية التقاص فيما إذا لم يتمكّن من الجنس من أمثال هذه الأدلّة ، مع أنّه من الواضح خلافه ، بل يلزم عدم مشروعية المقاصة في مقدار أقلّ من الحقّ .
1 ـ غير خفي أنّه إذا رفع الأمر إلى الحاكم ولم يكن بيّنة للمدّعي ، ووصلت النوبة إلى حلف المدّعى عليه فحلّفه الحاكم وحلف ، وحكم الحاكم على طبق حلفه بعدم كونه غاصباً أو مديوناً ، لا يجوز للدائن ـ وإن كان يرى نفسه فيما بينه وبين الله دائناً ـ المقاصة من مال المديون; لاقتضاء فصل الخصومة الحاصل بحكم الحاكم ذلك ، وإن كان لا يصير الغاصب مالكاً للعين واقعاً ، والمديون بريئاً من الدين كذلك ، وقد ورد في بعض الروايات النبوية الصحيحة المشتملة على قوله (صلى الله عليه وآله): إنّما
- (1) تقدّمتا في ص348.
- (2) سورة البقرة 2: 194 .
- (3) سورة النحل 16: 126 .
(الصفحة 381)
أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(1) ما هو مفاده أنّه لو قضيت لكم بخلاف الواقع لا يصير المحكوم له مالكاً واقعاً ، بل إنّما قطع له قطعة من النار . ومع اقتضاء القاعدة ذلك فقد وردت في المسألة أيضاً روايات:
منها: رواية خضر النخعي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً ، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه(2) .
ومنها: رواية ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه ، فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعي ، فلا دعوى له . قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم وإن أقام بعدما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له ، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه(3) .
ولا يخفى أنّ المراد بذهاب اليمين بحقّ المدّعي ، كما يظهر من تفريع قوله: «فلا دعوى له» هو الذهاب من جهة إقامة الدعوى أو التقاص أو مثلهما لا ذهابها به واقعاً .
كما أنّه لا خصوصية لنفي الدعوى في التفريع ، بل كلّ ما يترتّب على دعواه فلا يجوز بيعه أيضاً ، كما أنّ المراد من إقامة البيّنة هي الإقامة قبل حلف المنكر ، وإلاّ فلا تصل النوبة إلى الحلف ، كما تقدّم(4) .
- (1) الكافي: 7 / 414 ح1 ، التهذيب: 6 / 229 ح552 ، الوسائل: 27 / 232 ، أبواب كيفية الحكم ب2 ح1 .
- (2) الكافي: 7 / 418 ح2 ، التهذيب: 6 / 231 ح566 ، الوسائل: 27 / 246 ، أبواب كيفية الحكم ب10 ح1 .
- (3) الكافي: 7 / 417 ح1 ، التهذيب: 6 / 231 ح565 ، الوسائل: 27 / 244 ، أبواب كيفية الحكم ب9 ح1 .
- (4) تقدّم في المسألة 11 من مسائل «القول في الجواب بالانكار» .
(الصفحة 382)
لكن في صحيحة أبي بكر الحضرمي المتقدّمة الدالّة على مشروعية المقاصة قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها الخ(1) ، وظاهرها أنّ «حلف» بصيغة المبني للفاعل . وقد حملها السيّد في الملحقات على حلف الغريم من عنده ، أو باستحلاف المدّعي وحلفه دون تحليف الحاكم(2) .
إن قلت: إنّ السؤال فيها مطلق ، وترك الاستفصال في الجواب دليل الإطلاق .
قلت: لو سلّم ذلك ولم نقل بانصرافه عن الحلف عقيب استحلاف الحاكم لابدّ من حمل الإطلاق بقرينة الروايتين على ما إذا لم يكن هناك استحلاف من الغارم بتوسط الحاكم ، كما لا يخفى .
وهنا رواية ظاهرة في أنّه لو رضي المدّعي بحلف المدّعى عليه يكفي ذلك في عدم جواز المقاصّة ، وإن لم يكن في البين ترافع إلى الحاكم ، وهي رواية عبدالله بن وضّاح قال: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم ، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة ، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها ، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف ، وقد وقع له عندي مال فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت . فكتب: لا تأخذ منه شيئاً إن كان ظلمك فلا تظلمه ، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنّك رضيت بيمينه وقد ذهبت اليمين بما فيها ، فلم آخذ منه شيئاً ، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام)(3) .
- (1) في ص348 .
- (2) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 216 .
- (3) الكافي: 7 / 430 ح14 ، التهذيب: 6 / 289 ح802 ، الوسائل: 27 / 246 ، أبواب كيفية الحكم ب10 ح2 .
(الصفحة 383)مسألة 22: يستحب أن يقول عند التقاص: «اللهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي ، وإنّي لم آخذ الذي أخذته خيانةً ولا ظلماً» . وقيل: يجب ، وهو أحوط1.
ولكن لو قطعنا النظر عن هذه الرواية من جهة السند لكان الحكم فيما لو كان الحلف بإذن الحاكم ما ذكرنا .
1 ـ قد عرفت اشتمال صحيحة أبي بكر الحضرمي الدالّة على مشروعية المقاصّة ، المشتملة على قوله: «ولكن لهذا كلام» على الدّعاء المزبور ، وظاهرها وإن كان هو الوجوب إلاّ أنّها محمولة على الاستحباب ، ويؤيّده مضافاً إلى أنّ الغرض من المقاصة التوصل إلى الحقّ ، وهو لا يتوقف على الدعاء المزبور ، بل تتقوّم بالأخذ مع القصد بينه وبين الله تعالى ، وإلى اختلاف الدعاء في روايتي أبي بكر ، ففي إحداهما ما هو المذكور في المتن ، وفي الاُخرى كما تقدّم: اللهمّ إني لا آخذه «لم آخذه لن أخذه» ظلماً ولا خيانة، وانّما أخذته مكان مالي الذي اُخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً(1) ، وإن كان يدفعه أنّ الاختلاف إنّما يدلّ على الاستحباب فيما إذا كانت الروايات متعدّدة .
وقد عرفت أنّ الروايتين أو الروايات لأبي بكر الحضرمي لا تكون متعدّدة ، وإن جعلها في الوسائل وبتبعها الكتب الفقهية كذلك ـ وعليه فلا دلالة للاختلاف على الاستحباب لخلوّ أكثر أدلّة مشروعية التقاص عن هذا الدعاء ، ولا مجال لدعوى كون أكثرها ضعيفاً سنداً; لوجود روايات صحيحة فيها ، مضافاً إلى آيتي
- (1) الكافي: 5 / 98 ح3 ، الفقيه: 3 / 114 ح486 ، التهذيب: 6 / 197 ح439 ، الإستبصار: 3 / 52 ح169 ، الوسائل: 17 / 274 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح5 .