(الصفحة 230)
لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فضلا عن القسم بغيره عنده (عليه السلام) ، ويؤيّد هذه الطائفة ما اعتمد عليه صاحب الجواهر (قدس سره) من سيرة المتشرّعة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار بين الخواص والعوام على الحلف بغير الله، مضافاً إلى قوله تعالى في سورة المائدة:
{جَهدَ أَيمَانِهِم}(1) حيث إنّه يشعر بوجود أيمان بغيره تعالى ، ولو أغمض عن السيرة يكون مقتضى الجمع هو حمل الطائفة الأولى على الكراهة كما في سائر المقامات ، ويدلّ على هذا الجمع التعليل المتقدّم في رواية الحلبي، بأنّه يوجب ترك الحلف بالله تعالى ، وكذا التعبير في النبويّين، بأنّه شرك أو كفر ، مع ملاحظة عدم ثبوت الشرك أو الكفر الحقيقي بعد ملاحظة أنّ القسم بغير الله لا يستلزم جعل الغير في عرض الله ، الذي ليس كمثله شيء ، فإنّ القسم بالرسول (صلى الله عليه وآله) مثلا كيف يكون كذلك ، فلابدّ من الحمل على الكراهة .
بقي الكلام في هذه المسألة في أمرين:
أحدهما: لو كان الحلف بغير الله بمثل العتاق والطلاق والبراءة ، فالمحكي عن الشهيدين في الدروس والروضة أنّه حرام قطعاً(2) ، وفي محكي التحرير الذي هو قبل الشهيدين: لا يجوز الإحلاف بشيء من ذلك; لأنّه بدعة ، وكذا لا يجوز الحلف بالقرآن، ولا بالبراءة من الله تعالى، ولا من رسوله (صلى الله عليه وآله)، ولا من أحد من الأئمّة(عليهم السلام)ولا من الكتب المنزلة ، ولا يجوز الحلف بالكفر ولا بالعتق ولا بالطلاق(3) . والوجه فيه إن كان هو البدعة فالمحرم عنوانها ، ولا يكاد يسري الحكم من متعلّقه إلى
- (1) سورة المائدة 5: 53 .
- (2) الدروس الشرعيّة: 2 / 96 ، الروضة البهيّة: 3 / 94 .
- (3) تحرير الأحكام: 2 / 190 ، المطلب الثالث .
(الصفحة 231)مسألة 5: حلف الأخرس بالإشارة المفهمة ، ولا بأس بأن تكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد إعلامه ، فإن شرب كان حالفاً ، وإلاّ ألزم بالحقّ ،
مصاديقه ، أو ما هو متحد مع المتعلق في الخارج، كما هو المحقّق في محلّه ، وإن كان شيئاً آخر فهو غير معلوم، كما لايخفى .
ثانيهما: أنّه ذكر في المتن إنّ مثل قوله: سألتك بالقرآن أو بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأمثالهما لا إشكال في عدم حرمته ، والوجه فيه كما أفاده السيد (قدس سره) في الملحقات: أنّه لا يكون حلفاً بل استشفاع وتوسيط(1) ، ومن الواضح أنّه لا يكون حراماً فضلا عن أن يكون شركاً ، كما توهّمته الفرقة الضالّة المنحرفة الجاهلة الوهابية ، حيث ينسبون الشرك الخفي إلى الشيعة الاثني عشريّة ، مع أنّ تجليلهم لأئمّتهم(عليهم السلام) إنّما هو لكونهم عباد الله المخلصين الصالحين ، وهم محبوبون للرّب لأجل ذلك ، كما تصرّح بذلك ذيل الزيارة الجامعة الكبيرة المشتملة على قوله: «اللهمّ إنّي لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمّد وأهل بيته الأخيار الأئمّة الأبرار لجعلتهم شفعائي»(2) ، وغير ذلك من الموارد ، فكيف يجوّز الوهّابي الجاهل أن ينسب إلى الشيعة ما هم بُراء منه ، بل يعارضوه أشدّ المعارضة .
ولعمري إنّ التعصّب الموجب للانحراف صار مانعاً عن الوصول إلى حقيقة هذا المذهب ، أو أنّ الجهالة تمنع عن ذلك ، أو أن السياسة الخبيثة صارت سبباً لعدم اتّضاح الحقّ ، كما أنّها صارت سبباً لحدوث مذهب الوهابية البعيد عن أصل الإسلام بمراحل جدّاً ، وهذا أقرب إلى الصواب كما لايخفى .
- (1) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 201 ذ مسألة 2 .
- (2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2 / 277 ، بحار الأنوار: 102 / 133 .
(الصفحة 232)ولعلّ بعد الاعلام كان ذلك نحو إشارة ، والأحوط الجمع بينهما1.
1 ـ وقع الإشكال في حلف الأخرس من جهة أنّ المشهور كما في سائر الموارد قيام إشارته مقام اللفظ ، مثل التكبير والتلبية وغيرهما ، ومن جهة ورود رواية صحيحة في هذا المقام ، وهي رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن الأخرس ، كيف يحلف إذا ادعي عليه دين وأنكره ، ولم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اُتي بأخرس فادّعي عليه دين ، ولم يكن للمدّعي بيّنة . فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للاُمّة جميع ما تحتاج إليه ، ثمّ قال: ائتوني بمصحف ، فأُتي به ، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السّماء وأشار أنّه كتاب الله عزّوجلّ ، ثمّ قال: ائتوني بوليّه ، فاُتي بأخ له فأقعده إلى جنبه .
ثمّ قال: يا قنبر عليّ بدواة وصحيفة ، فأتاه بهما ، ثمّ قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه أنّه عليّ ، فتقدّم إليه بذلك ، ثمّ كتب أمير المؤمنين (عليه السلام): والله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، الضارّ النافع ، المهلك المدرك ، الذي يعلم السّر والعلانية ، إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان ، أعني الأخرس حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه ، ولا بسبب من الأسباب ، ثمّ غسله وأمر الأخرس أن يشربه ، فامتنع ، فألزمه الدّين(1) .
هذا ، ولم يناقش أحد في سند الرواية في نفسها ، وأمّا دلالتها ، فالمحكي عن التحرير أنّها قضية في عين فلا تعدّى(2) ، أي لا يجوز التعدي عن نفس تلك الواقعة
- (1) التهذيب: 6 / 319 ح879 ، الفقيه: 3 / 65 ح218 ، الوسائل: 27 / 302 ، أبواب كيفيّة الحكم ب33 ح1 .
- (2) تحرير الأحكام: 2 / 191 .
(الصفحة 233)
وتسرية الحكم إلى الموارد المشابهة .
ويرد عليه مضافاً إلى ما ذكرناه مراراً من أنّ الحاكي هو الإمام (عليه السلام) ،وكان الغرض من الحكاية بيان الحكم ، خصوصاً مع وقوعها جواباً عن سؤال محمد بن مسلم عن الحكم وكيفية حلف الأخرس ، ومع قوله (عليه السلام):«حتى بيّنت للأمّة جميع ما تحتاج إليه»، واحتمال كون الاكتفاء بذلك من جهة أنّه من طرق الإشارة المفهمة ، والمقصود كفاية مطلق الإشارة ، مدفوع بظهور الرواية في خصوصية ما فعله (عليه السلام) ، نعم قد تقدّم البحث عن ذيل الرواية الظاهر في أنّ مجرّد امتناع المنكر عن الحلف أو ما يقوم مقامه يكفي في ثبوت حقّ المدّعي ، والإلزام بالدين المدّعى به ، من دون أن يردّ الحلف على المدّعي .
وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّ الشهرة على خلاف الرواية; ولذا ذكر المحقّق في الشرائع بعد أن جعل حلف الأخرس بالإشارة قولا: بأنّ حلفه وضع يده على اسم الله في المصحف ، أو يكتب اسمه سبحانه وتوضع يده عليه ، وقولا: بما تفيده الرواية المذكورة(1) ، وذكر صاحب الجواهر في الشرح: أنّي لم أعرف القولين لأحد من أصحابنا ، وإن نسب الأوّل إلى نهاية الشيخ(2) ، والثاني إلى ابن حمزة في الوسيلة(3) ، لكن لا دلالة لشيء من العبارتين على ما هو المنسوب إليهما(4) ، وعليه يتحقّق فوق الشهرة على خلاف الرواية ، ومخالفة المشهور قادحة في الحجّية والاعتبار ، وإن بلغت الرواية أعلى مراتب الصحّة ، لكن مقتضى الاحتياط
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 877 .
- (2) النهاية: 347 ـ 348 .
- (3) الوسيلة: 228 .
- (4) جواهر الكلام: 40 / 239 .
(الصفحة 234)مسألة 6: لا يشترط في الحلف العربيّة ، بل يكفي بأيّ لغة إذا كان باسم الله أو صفاته المختصّة به1.
مسألة 7: لا إشكال في تحقّق الحلف إن اقتصر على اسم الله كقوله: «والله ليس لفلان عليّ كذا»، ولا يجب التغليظ بالقول مثل أن يقول: «والله الغالب القاهر المهلك» ولا بالزّمان كيوم الجمعة والعيد ، ولا بالمكان كالأمكنة المشرّفة ، ولا بالأفعال كالقيام مستقبل القبلة آخذاً المصحف الشريف بيده ، والمعروف أنّ التغليظ مستحب للحاكم ، وله وجه2.
الاستحبابي الجمع بين الإشارة المفهمة وبين مفاد الرواية ، وعدم الاقتصار على خصوص أحدهما .
1 ـ الدليل على ما في المتن عدم الدليل على اعتبار العربية ، بل يكفي بأيّ لغة كان ولو من غير العربيّة ، بل يمكن أن يقال بعدم الاكتفاء بالعربية إذا لم يعرف معناها ، خصوصاً إذا لم يعرف ولو إجمالا ، بل الأقوى عدم الاكتفاء حينئذ .
2 ـ الغرض من المسألة أمران:
أحدهما: أنّه لا يجب التغليظ في نفسه على الحالف ، بل يجوز له الاقتصار على اسم الله تعالى ، كقول الحالف المنكر: والله ليس لفلان عليّ كذا ، أو الحالف المدّعي: والله لي عليه كذا ، فالتغليظ بالقول أو الفعل أو الزمان أو المكان لا يكون واجباً عليه; لأنّ وظيفته في صورة إرادة الحلف ليس إلاّ الحلف بالله تعالى ، كما مرّ في المسألة الاُولى المتقدّمة .