(الصفحة 232)ولعلّ بعد الاعلام كان ذلك نحو إشارة ، والأحوط الجمع بينهما1.
1 ـ وقع الإشكال في حلف الأخرس من جهة أنّ المشهور كما في سائر الموارد قيام إشارته مقام اللفظ ، مثل التكبير والتلبية وغيرهما ، ومن جهة ورود رواية صحيحة في هذا المقام ، وهي رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن الأخرس ، كيف يحلف إذا ادعي عليه دين وأنكره ، ولم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اُتي بأخرس فادّعي عليه دين ، ولم يكن للمدّعي بيّنة . فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للاُمّة جميع ما تحتاج إليه ، ثمّ قال: ائتوني بمصحف ، فأُتي به ، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السّماء وأشار أنّه كتاب الله عزّوجلّ ، ثمّ قال: ائتوني بوليّه ، فاُتي بأخ له فأقعده إلى جنبه .
ثمّ قال: يا قنبر عليّ بدواة وصحيفة ، فأتاه بهما ، ثمّ قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه أنّه عليّ ، فتقدّم إليه بذلك ، ثمّ كتب أمير المؤمنين (عليه السلام): والله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، الضارّ النافع ، المهلك المدرك ، الذي يعلم السّر والعلانية ، إنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان ، أعني الأخرس حقّ ولا طلبة بوجه من الوجوه ، ولا بسبب من الأسباب ، ثمّ غسله وأمر الأخرس أن يشربه ، فامتنع ، فألزمه الدّين(1) .
هذا ، ولم يناقش أحد في سند الرواية في نفسها ، وأمّا دلالتها ، فالمحكي عن التحرير أنّها قضية في عين فلا تعدّى(2) ، أي لا يجوز التعدي عن نفس تلك الواقعة
- (1) التهذيب: 6 / 319 ح879 ، الفقيه: 3 / 65 ح218 ، الوسائل: 27 / 302 ، أبواب كيفيّة الحكم ب33 ح1 .
- (2) تحرير الأحكام: 2 / 191 .
(الصفحة 233)
وتسرية الحكم إلى الموارد المشابهة .
ويرد عليه مضافاً إلى ما ذكرناه مراراً من أنّ الحاكي هو الإمام (عليه السلام) ،وكان الغرض من الحكاية بيان الحكم ، خصوصاً مع وقوعها جواباً عن سؤال محمد بن مسلم عن الحكم وكيفية حلف الأخرس ، ومع قوله (عليه السلام):«حتى بيّنت للأمّة جميع ما تحتاج إليه»، واحتمال كون الاكتفاء بذلك من جهة أنّه من طرق الإشارة المفهمة ، والمقصود كفاية مطلق الإشارة ، مدفوع بظهور الرواية في خصوصية ما فعله (عليه السلام) ، نعم قد تقدّم البحث عن ذيل الرواية الظاهر في أنّ مجرّد امتناع المنكر عن الحلف أو ما يقوم مقامه يكفي في ثبوت حقّ المدّعي ، والإلزام بالدين المدّعى به ، من دون أن يردّ الحلف على المدّعي .
وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّ الشهرة على خلاف الرواية; ولذا ذكر المحقّق في الشرائع بعد أن جعل حلف الأخرس بالإشارة قولا: بأنّ حلفه وضع يده على اسم الله في المصحف ، أو يكتب اسمه سبحانه وتوضع يده عليه ، وقولا: بما تفيده الرواية المذكورة(1) ، وذكر صاحب الجواهر في الشرح: أنّي لم أعرف القولين لأحد من أصحابنا ، وإن نسب الأوّل إلى نهاية الشيخ(2) ، والثاني إلى ابن حمزة في الوسيلة(3) ، لكن لا دلالة لشيء من العبارتين على ما هو المنسوب إليهما(4) ، وعليه يتحقّق فوق الشهرة على خلاف الرواية ، ومخالفة المشهور قادحة في الحجّية والاعتبار ، وإن بلغت الرواية أعلى مراتب الصحّة ، لكن مقتضى الاحتياط
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 877 .
- (2) النهاية: 347 ـ 348 .
- (3) الوسيلة: 228 .
- (4) جواهر الكلام: 40 / 239 .
(الصفحة 234)مسألة 6: لا يشترط في الحلف العربيّة ، بل يكفي بأيّ لغة إذا كان باسم الله أو صفاته المختصّة به1.
مسألة 7: لا إشكال في تحقّق الحلف إن اقتصر على اسم الله كقوله: «والله ليس لفلان عليّ كذا»، ولا يجب التغليظ بالقول مثل أن يقول: «والله الغالب القاهر المهلك» ولا بالزّمان كيوم الجمعة والعيد ، ولا بالمكان كالأمكنة المشرّفة ، ولا بالأفعال كالقيام مستقبل القبلة آخذاً المصحف الشريف بيده ، والمعروف أنّ التغليظ مستحب للحاكم ، وله وجه2.
الاستحبابي الجمع بين الإشارة المفهمة وبين مفاد الرواية ، وعدم الاقتصار على خصوص أحدهما .
1 ـ الدليل على ما في المتن عدم الدليل على اعتبار العربية ، بل يكفي بأيّ لغة كان ولو من غير العربيّة ، بل يمكن أن يقال بعدم الاكتفاء بالعربية إذا لم يعرف معناها ، خصوصاً إذا لم يعرف ولو إجمالا ، بل الأقوى عدم الاكتفاء حينئذ .
2 ـ الغرض من المسألة أمران:
أحدهما: أنّه لا يجب التغليظ في نفسه على الحالف ، بل يجوز له الاقتصار على اسم الله تعالى ، كقول الحالف المنكر: والله ليس لفلان عليّ كذا ، أو الحالف المدّعي: والله لي عليه كذا ، فالتغليظ بالقول أو الفعل أو الزمان أو المكان لا يكون واجباً عليه; لأنّ وظيفته في صورة إرادة الحلف ليس إلاّ الحلف بالله تعالى ، كما مرّ في المسألة الاُولى المتقدّمة .
(الصفحة 235)مسألة 8: لا يجب على الحالف قبول التغليظ ، ولا يجوز إجباره عليه ، ولو امتنع عنه لم يكن ناكلا ، بل لا يبعد أن يكون الأرجح له ترك التغليظ ، وإن استحب للحاكم التغليظ احتياطاً على أموال الناس ، ويستحبّ التغليظ في جميع الحقوق إلاّ الأموال ، فإنّه لا يغلظ فيها بما دون نصاب القطع1.
ثانيهما: أنّ استحباب التغليظ للحاكم له وجه; ووجهه ـ مضافاً إلى الشهرة(1)بل عدم الخلاف فيه(2) بل الإجماع عليه(3) ، بل قطع الأصحاب كما في محكي كشف اللثام من النسبة إلى قطع الأصحاب(4) ـ ثبوته في الرواية الصحيحة المتقدّمة الواردة في الأخرس ، وفي يمين الاستظهار الواردة في الروايتان المتقدّمتان في الدعوى على الميّت(5) ، وخبر الحسين بن علوان المروي في قرب الإسناد ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام): أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يستحلف اليهود والنصارى في بِيعهم وكنائسهم ، والمجوس في بيوت نيرانهم ، ويقول: شدّدوا عليهم احتياطاً للمسلمين(6) .
1 ـ الغرض من هذه المسألة أيضاً أمران:
أحدهما: أنّه لا يجب على الحالف قبول التغليظ ، ولا يجوز إجباره عليه ، ولو امتنع عنه لم يكن ناكلا ، بل في المتن نفى البعد عن أن يكون الأرجح له ترك التغليظ .
- (1) مسالك الافهام: 13 / 478 .
- (2) رياض المسائل: 9 / 324 .
- (3) الخلاف: 6 / 285 ـ 287 مسألة 31 و 32 .
- (4) كشف اللثام: 2 / 340 .
- (5) تقدّمتا في ص169 ـ 170 .
- (6) قرب الإسناد: 86 ح284 ، الوسائل: 27 / 298 ، أبواب كيفيّة الحكم ب29 ح2 .
(الصفحة 236)
أمّا عدم وجوب القبول وعدم جواز الإجبار فلعدم الدليل على ذلك; لأنّ غاية ما عليه ـ إذا أراد الحلف ـ هو الحلف بالله بالنحو الذي ذكرنا لا الزائد عليه ، ومنه يعلم أنّه في صورة الامتناع عن قبول التغليظ ، لا يصير ناكلا مترتّباً عليه أحكام النكول وآثاره المتقدّمة .
وأمّا نفي البعد عن أن يكون الأرجح له ترك التغليظ ، فلعلّ وجهه ما يستفاد من كلام السيّد في الملحقات من استلزام كون أصل الحلف مرجوحاً لمرجوحية التغليظ فيه على فرض إقدامه عليه(1) ، ولكنّه أورد عليه بمنع الاستلزام والاقتضاء .
وفيه إشكال آخر، وهو: أنّه كيف يجتمع مرجوحية التغليظ بالإضافة إلى الحالف ، مع استحباب التغليظ بالنظر إلى الحاكم؟ كما يأتي في الأمر الثاني إن شاء الله تعالى ، وإن كان يمكن الجمع بأنّ استحباب التغليظ بالنظر المذكور لعلّه لأجل أنّه أقرب إلى انصراف الحالف عن الحلف لو كان كاذباً ، وله موارد مشابهة في الفقه; كاستحباب أن يكون المضيف يسعى في الضيافة ويصرف غاية إمكاناته ، ويستحب للضيف أن لا يصير موجباً لزحمة المضيف ومشقّته .
ثانيهما: أنّه يستحبّ للحاكم التغليظ احتياطاً على أموال الناس ، وهذا وإن لم يرد فيه رواية مطلقة إلاّ أنّه يستفاد ممّا تقدّم في المسألة المتقدّمة ، وكذا من مرسلة محمد بن مسلم وزرارة عنهما (عليهما السلام) جميعاً قالا: لا يحلف أحد عند قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)على أقلّ ممّا يجب فيه القطع(2) .
- (1) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 203 ذ مسألة 7 .
- (2) التهذيب: 6 / 310 ح855 ، الوسائل: 27 / 298 ، أبواب كيفيّة الحكم ب29 ح1 .