(الصفحة 337)مسألة 5: لا يعتبر في جواز شهادة البيّنة ولا في قبولها هنا غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات ، فلا يعتبر إشهادهما على حكمه وقضائه في التحمّل ، وكذا لا يعتبر في قبول شهادتهما إشهادهما على الحكم ، ولا حضورهما في مجلس الخصومة وسماعهما شهادة الشهود ، بل المعتبر شهودهما أنّ الحاكم حكم بذلك ، بل يكفي علمهما بذلك1.
ثمّ قال: اللهمّ إلاّ إنّ يقال: إنّ الشبهة حاصلة للحاكم الآخر حتى لو سمع إنشاء حكمه فضلا عن الشهادة به ، فلا يشرع قضاء التنفيذ في الحدّ(1) . . . .
أقول: ويمكن أن يكون الوجه فيه ـ بناء على كون الإجماع فقط مدركاً للقضاء التنفيذي ـ إنّ الإجماع حيث يكون دليلا لبّياً ، والأدلّة اللبّية يقتصر فيها على القدر المتيقّن ، فالقدر المتيقّن هي حقوق الناس دون حقوق الله مثل الحدّ وغيره ، فإنّها محلّ إشكال لو لم نقل بقيام الإجماع فيها على العدم ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ قد عرفت أنّ طرق الإنهاء ثلاثة:
منها: قيام البيّنة عند الحاكم الثاني على ثبوت حكم الحاكم الأوّل وإنشائه لرفع الخصومة والنزاع ، فاعلم أنّه لا يعتبر في اعتبار هذه البيّنة شيء زائد على البيّنة المعتبرة في سائر المقامات ، فلا يعتبر حضورهما في مجلس المرافعة ولا سماعهما شهادة الشهود ، بل ولا سماع إنشاء الحاكم الأوّل ، بل الظاهر كفاية علمهما بذلك ، كما يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات(2) .
نعم ، القدر المتيقّن صورة حضور الشاهدين سماع الحكم وإشهادهما الحاكم
- (1) جواهر الكلام: 40 / 312 .
- (2) يأتي في «القول في الشهادة على الشهادة» .
(الصفحة 338)مسألة 6: قيل: إن لم يحضر الشاهدان الخصومة فحكى الحاكم لهما الواقعة وصورة الحكم ، وسمّى المتحاكمين بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما ، وأشهدهما على الحكم فالأولى القبول; لأنّ إخباره كحكمه ماض ، والأشبه عدم القبول إلاّ بضمّ عادل آخر ، بل لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة فجواز الشهادة بالحكم بنحو الإطلاق مشكل بل ممنوع ، والشهادة بنحو التقييد بأنّه لم يكن إنشاء مجلس الخصومة ولا إنشاء الرافع لها جائزة ، لكن إنفاذه للحاكم الآخر مشكل بل ممنوع1.
الأوّل ، وهو الذي عبّر عنه المحقّق في الشرائع بأنّه أتمّ احتياطاً(1) ، لكن لا دليل على اعتبار شيء من الأمرين بعد عدم الدليل عليه في مقابل عموم أدلّة حجّية البيّنة ، واعتبارها في الموضوعات التي منها إنشاء الحكم من الحاكم الأوّل .
1 ـ القائل هو المحقّق في الشرائع، حيث إنّه بعد الترديد في المسألة قال: والقبول أولى ، مستدلاًّ بأنّ حكمه كما كان ماضياً كان إخباره ماضياً(2) . وحكي الخلاف عن الشيخ في الخلاف(3) ، بل قيل: إنّ ظاهره دعوى الإجماع عليه ، إلاّ أنّه ذكر صاحب الجواهر (قدس سره): أنّه لم يجد من وافقه عليه سوى بعض متأخّري المتأخّرين(4) .(5)
وكيف كان ، فمنشأ الترديد ما استدلّ به المحقّق من أنّه كما يكون إنشاؤه ماضياً
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 885 .
- (3) الخلاف: 6 / 245 مسألة 42 .
- (4) مجمع الفائدة والبرهان: 12 / 409 ـ 410 .
- (5) جواهر الكلام: 40 / 314 .
(الصفحة 339)
يكون إخباره أيضاً ماضياً; لأنّ مستند حجّية الإنشاء كونه حجّة وكون الرادّ عليه كالراد عليهم(عليهم السلام) ، وانطباق هذا العنوان عليه يوجب كونه مصدّقاً لحقّ الغير ، وإن لم يقبل الإقرار عليه خصوصاً مع أنّ إنشاء القضاء فيما هو المفروض شيء لا يعلم إلاّ من قبله ، ومن أنّ إخبار عادل واحد لا يكفي في الموضوعات الخارجية ، ولا يقبل إلاّ بضمّ عادل آخر . فإخبار القاضي بإنشائه السابق من هذا القبيل ، ولا ملازمة بين حجّية إنشائه وحجّية إخباره وإن كان المخبرُ به إنشاءَه .
ومنه يظهر أنّ دعوى أولوية الفرض ممّا قام على إنشائه شاهدان عادلان ممنوعة; لأنّ إخباره بإنشائه في السابق إخبار عادل واحد بخلاف صورة قيام البيّنة عليه ، فالأولوية ممنوعة جدّاً . واستفادة حجّية إخباره بذلك من دليل حجّية إنشائه موجبة للالتزام بحجّية إخباره في سائر الموضوعات الخارجيّة ، مع انّا لا نقول به .
ويظهر من المحكي عن المسالك: أنّ وجه التردّد غير ذلك ، حيث قال: قد ظهر من الأدلّة المجوِّزة لقبول إنفاذ الحكم أنّ موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد البعيدة عن الحاكم الأوّل ، فذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة ، وهم الشهود على حكم الأوّل. فلو كان الحاكمان مجتمعين وأشهد أحدهما الآخر على حكمه لم يصحّ إنفاذه; لأنّ هذا ليس من محلّ الضرورة المسوّغة للإنفاذ المخالف للأصل(1) .
وأورد عليه في الجواهر: بأنّ ذلك ليس قولا لأحد من أصحابنا ، ولم نعرف أحداً حكاه غيره ، والضرورة المذكورة في الدليل إنّما هي حكمة أصل المشروعية
- (1) مسالك الأفهام: 14 / 17 .
(الصفحة 340)مسألة 7: لا فرق في جميع ما مرّ بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما ، وبين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعي البيّنة ، فالتحمل فيهما والشهادة وشرائط القبول واحد ، ولابدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعي والمدّعى عليه ممّا يخرجهما عن الإبهام ، وحفظ المدّعى به بخصوصياته المخرجة عن الإبهام ، وحفظ الشاهدين وخصوصياتهما كذلك
للإنفاذ لا أنّها علّته، على أنّها قد تتحقّق فيه لقطع الخصومة مع عدم التباعد(1) . . .
فالحقّ حينئذ ما اختاره في المتن من عدم القبول ، وأنّه أشبه بالأصول والقواعد كما لا يخفى .
بل ذكر في المتن أنّه لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة ، وأشهد الشاهدين على هذا الحكم الثاني ، فجواز الشهادة بالحكم بنحو الاطلاق مشكل بل ممنوع ، والشهادة بنحو التقييد غير مفيد ، وعليه فالإنشاء الثاني لغو لا يترتّب عليه أثر . فتدبّر جيّداً .
أمّا الممنوعيّة في صورة الإطلاق; فللانصراف إلى الحكم المنشأ أوّلا الفاصل للخصومة والرافع للتنازع ، ومع هذا الانصراف لا تجوز الشهادة على نحو الإطلاق .
وأمّا عدم كونه مفيداً في صورة التقييد بأن يشهد بأنّ الحكم المشهود به ليس هو الحكم الأوّل الفاصل للخصومة ، فلأنّ أدلّة الإنفاذ سيّما الإجماع مقصورة على إنفاذ الحكم المنشأ أوّلا ، الصادر على طبق موازين القضاء ، ولا يشمل الحكم الثاني من الحاكم الأوّل مع عدم إحراز الحكم الأوّل .
- (1) جواهر الكلام: 40 / 316 .
(الصفحة 341)فيما يحتاج إليه ، كالحكم على الغائب وأنّه على حجّته1.
1 ـ لا فرق فيما مرّ من القضاء التنفيذي بين أن يكون حكم الحاكم الأوّل بين المتخاصمين مع حضورهما، وبين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعي البيّنة، وقد مرّ البحث في جواز الحكم على الغائب(1) ، وحينئذ فتجوز شهادة البيّنة على صدور الحكم على الغائب عند الحاكم الثاني ، غاية الأمر أنّه لابدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعي والمدّعى عليه والمدّعى به بما يخرج كلّ واحد من هذه الاُمور عن الإبهام والإجمال .
وظاهر العبارة ـ خصوصاً بملاحظة اللابدية الآتية فيها ـ أنّ هذه اللابدية إنّما هي في خصوص صورة الحكم على الغائب، مع أنّ الظاهر تحقّقها في كلتا الصورتين، فانّه في صورة حضور المتخاصمين لابدّ من حفظ خصوصياتهما وخصوصيّات المدّعى به في الحكم التنفيذي .
نعم لا يعتبر في غير الحكم على الغائب حفظ الشاهدين وخصوصياتهما، بل تكفي الشهادة على حكم الأوّل وإن لم يُعرف الشاهدان أصلا . وأمّا في الحكم على الغائب فيعتبر ذلك نظراً إلى أنّ الغائب على حجّته ، ويمكن له قدح الشاهدين أو أحدهما ، كما قد تقدّم في الحكم على الغائب .
ثمّ إنه قد ظهر ممّا ذكر في هذا الفصل أنّ جعل عنوانه «كتابة قاض إلى قاض» لا ينبغي ، وان جعل عنوانه «القضاء التنفيذي» لكان أولى ، والسرّ فيه أنّه جعل القضاء بالكتابة غير مشروع ، وكتابة قاض إلى قاض غير مؤثِّرة ، ولو في صورة العلم بأنّه الكاتب وأنّه أراد المفاد ، فتدبّر جيّداً .
- (1) تقدّم في «القول في شروط سماع الدعوى» مسألة 5 و 6 .