(الصفحة 25)مسألة 4 : يحرم الترافع إلى قضاة الجور ـ أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء ـ فلو ترافع إليهم كان عاصياً ، وما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً ، وفي العين إشكال إلاّ إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم ، فلايبعد جوازه سيّما إذا كان في تركه حرج عليه ، وكذا لو توقّف ذلك على الحلف كاذباً جاز1.
وإن لم يكن وجوب .
أقول : حيث إنّ في القضاء بمعنى فصل الخصومة ورفع التّنازع أموراً ثلاثة مترتّبة : تحصيل الولاية الموجبة لجعل منصب القضاوة له بمقتضى المقبولة والصحيحة ، وسماع الدّعوى ، والنظر في أدلّة الطرفين من البيّنة واليمين وغيرهما ، وفصل الخصومة ورفع التنازع لابدّ في الحكم بالتغاير بين المتعلّقين من جعل أحدهما متعلّقاً للوجوب ، والآخر متعلّقاً للاستحباب ، وإن كان في بعضها نظر .
1 ـ في هذه المسألة جهات من البحث :
الاُولى : حرمة الترافع إلى قضاة الجور ، وقد فسّرهم بمن لم تجتمع فيهم شرائط القضاء ، مع أنّ إطلاق قاضي الجور على كلّ من لا تجتمع فيهم الشرائط ممنوع جدّاً ، فإنّ المجتهد الشيعي غير الواجد لشرطيّة العدالة هل يكون قاضي الجور ، ولو علم عدم عدالته ، وحتى فيما رأى نفسه كذلك مع أنّ استعمال ضمير الجمع عقيب كلمة «من» لا يكون متداولا وإن فرضت صحّته .
وكيف كان فالدليل على الحرمة إنّما هو بالإضافة إلى قضاة الجور; لأنّه مصداق قوله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ}(1) . وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فلا دليل على الحرمة إلاّ من طريق عدم القول بالفصل أو
(الصفحة 26)
عدم الفصل ، وإلاّ فحرمة الترافع إلى قضاة الجور ، الذين هم حماة سلطان الجور ومن أياديهم وسبب لتداوم حكومتهم باعتبار أنّ الاجتماع يحتاج إلى التشكيلات القضائيّة ، لا يلازم حرمة الترافع إلى كلّ من لا يكون واجداً لشرائط القضاء ، كما هو واضح لا يخفى .
الثانية : حرمة ما أخذ بحكمهم وإن كان حقّاً ، كما قد صرّح بها في المقبولة المتقدّمة معلّلا بقوله : لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفَر به(1) ، ولا إشكال في ذلك فيما إذا كان المأخوذ ديناً ، كما إذا ادّعى زيد ديناً له على عمرو وترافعا ، وحكم الطاغوت بثبوت الدين ، وكان الأمر في الواقع كذلك ، فإنّ الدين المأخوذ حينئذ حرام وسحت ، وإن كان القاضي محقّاً في قضاه والمدّعي صادقاً في ادعائه; لأنّ تعيّن الدين وصيرورة ما في الذمّة متعيّناً في الخارج صار بسبب حكم الطاغوت وعدم رضاية المديون . وهذا لا يوجب التعيّن بوجه ، فالتصرّف فيه تصرّف في مال الغير بغير رضاه .
وأمّا إذا كان المأخوذ عيناً خارجيّاً كان في الواقع ملكاً للآخذ مثله ، فقد استشكل في حرمته في المتن من أنّ مقتضى إطلاق المقبولة سيّما بملاحظة إطلاق السؤال ، وترك الاستفصال في الجواب عدم الاختصاص بالدين ، بل الشمول للعين التي هي مورد الترافع والتنازع غالباً ، فاللازم حينئذ الحكم بالحرمة .
ومن أنّ حكم الحاكم ولو كان من قضاة الجور لا يكون حينئذ إلاّ بمنزلة رفع ما يمنع عن تصرّف المالك في ماله وجعله في اختياره ، فإنّ المالك معلوم ولو لنفسه والملك المتعيّن الخارجي معلوم ، ولم يكن هناك إلاّ المانع الذي ارتفع بسبب حكم
- (1) الوسائل : 27 / 136 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
(الصفحة 27)
الحاكم ولو كان من قضاة الجور ، وإن لم يتوقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم .
والظّاهر أنّ الالتزام بذلك فيما إذا لم يتوقّف الاستيفاء عليه مشكل . نعم في صورة التّوقف سواء كان حرجيّاً أم لم يكن كذلك لا إشكال فيه . أمّا في صورة الحرج فلدليله الظّاهر في أنّ الله ما جعل عليكم في الدين من حرج(1) لا في خصوص العبادات ومثلها . فدليل نفي الحرج كما أنّه حاكم على الأدلّة الأوّلية في باب العبادات يكون حاكماً عليها في مثل المقام . وأمّا في غير صورة الحرج فلأنّ مورد المقبولة وغيرها إمكان الترافع إلى غير قضاة الجور; ولذا جعل الحكومة والقضاء للأفراد الخاصّة ، والظاهر أنّه في صورة انحصار الطريق بالترافع إلى قضاة الجور لا مانع من الاستيفاء ولو لم يكن حرجيّاً ، فتدبّر .
الثالثة : جواز الحلف كاذباً لو توقّف عليه استيفاء الحقّ في غير باب القضاء ، والدليل عليه الروايات الكثيرة الواردة في هذا المجال :
مثل : صحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : نمرّ بالمال على العشّار ، فيطلبون منّا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منّا إلاّ بذلك ، قال : فاحلف لهم فهو أحلّ من الّتمر والزّبد(2) .
وصحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري ، عن أبي الحسن الرّضا (عليه السلام) في حديث قال : سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف ، قال : لا جناح عليه . وعن رجل يحلف على ماله من السلطان فيحلفه لينجو به منه ، قال : لا جناح عليه . وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله؟ قال :
- (1) إقتباس من سورة الحج 22 : 78 .
- (2) الفقيه : 3 / 230 ح1083 ، نوادر أحمد بن محمد بن عيسى : 72 ح152 ، الوسائل : 23 / 225 ، كتاب الأيمان ب12 ح6 .
(الصفحة 28)مسألة 5 : يجوز لمن لم يتعيّن عليه القضاء الارتزاق من بيت المال ولو كان غنيّاً ، وإن كان الأولى الترك مع الغنى ، ويجوز مع تعيّنه عليه إذا كان محتاجاً ، ومع كونه غنيّاً لا يخلو من إشكال ، وإن كان الأقوى جوازه . وأمّا أخذ الجعل من المتخاصمين أو أحدهما فالأحوط الترك حتّى مع عدم التعيّن عليه ، ولو كان محتاجاً يأخذ الجعل أو الأجر على بعض المقدّمات1.
نعم(1) . وغير ذلك من الروايات التي يكون مقتضاها الإطلاق ، ولو يكن حرج .
1 ـ إنّ هنا عناوين ثلاثة : الارتزاق من بيت المال ، والأجر أو الجعل على نفس القضاء والرشوة ، وسيأتي حكم العنوان الثالث في المسائل الآتية إن شاء الله تعالى . وأمّا الارتزاق من بيت المال المعدّ لمصالح المسلمين ، التي من عمدتها القضاء وفصل الخصومة ، فلا ينبغي الإشكال في جوازه للقاضي ، سواء كان القضاء واجباً عليه متعيّناً أو كفائيّاً إذا كان محتاجاً ، وفي صورة الغنى عنه أيضاً يجوز; لأنّه لا دليل على المنع وإن كان الأحوط الترك .
وأمّا الأجر والجعل على نفس القضاء فربّما يقال : إنّ مقتضى القاعدة عدم الجواز; لأنّ القضاء واجب وأخذ الاُجرة على الواجب حرام ، ولكنّه لو سلّمنا وجوب القضاء ، ولم نناقش بما ذكرناه سابقاً من أنّه لم يقم دليل لفظيّ على الوجوب أصلا ، لكن حرمة أخذ الاُجرة على الواجب محلّ بحث وكلام ، وقد ذكرنا هذه المسألة في قواعدنا الفقهيّة مفصّلة فراجع(2) . نعم ربّما يقال بقيام الدليل على الحرمة بالخصوص وهما روايتان :
- (1) الكافي 7 : 440 ح4 ، التهذيب : 8 / 285 ح1048 ، الوسائل : 23 / 224 ، كتاب الأيمان ب12 ح1 .
- (2) القواعد الفقهيّة : 1 / 509 ـ 533 .
(الصفحة 29)
إحداهما : صحيحة عمّار بن مروان قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : كلّ شيء غلّ(1)من الإمام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها : ما اُصيب من أعمال ولاة الظّلمة ، ومنها : اُجور القضاة واُجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبيذ والمسكر ، والربا بعد البيّنة . فأمّا الرشا ياعمّار في الأحكام فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله(2) . نظراً إلى ظهور الرواية في أنّ اُجور القضاة مطلقاً سحت ، أي ولو كان قضاؤه مقروناً بالوجدان للشرائط ، والجمع المحلّى بالّلام يفيد العموم .
ولكنّه ناقش في ذلك بعض الأعلام ، واستظهر أنّها ناظرة إلى الاُجور التي كان القضاة يأخذونها من الولاة الظلمة ، والذي دعاه إلى ذلك عدم تكرار كلمة «منها» في أجور الفواجر وما بعده من الجمل ، ولأجله قال : إنّ الظّاهر أنّ الضمير في قوله (عليه السلام) : «ومنها اُجور القضاة» يرجع إلى الموصول في جملة «ما اُصيب من أعمال الولاة» ومعنى ذلك أنّ الأموال التي تصاب من أعمال الولاة التي منها اُجور القضاة سحت ، فلا دلالة فيها على أن الأجر على القضاء محرّم مطلقاً ، حتى إذا لم يكن القاضي من عمّال ولاة الجور وكان قضاؤه حقّاً(3) .
والظاهر بطلان المناقشة المذكورة; لأنّها يرد عليها ـ مضافاً إلى كونها خلاف الظاهر جدّاً ـ أنّ لازمها الاقتصار في مقام بيان أنواع السحت التي وصفها بالكثرة على بيان نوعين أو نوع واحد . والظاهر أنّ الأعمال جمع عمل ، وأنّ جمع العامل عمّال لا أعمال ، والعمدة أن جعل ما الموصولة في قوله (عليه السلام) : «ما اصيب» تارة مذكّراً
- (1) الغل : الخيانة الخفيّة ، سيّما في الغنيمة .
- (2) معاني الأخبار : 211 ح2 ، الخصال : 329 ح26 ، تفسير العيّاشي : 1 / 321 ح115 ، الوسائل : 17/ 95 ، أبواب ما يكتسب به ب5 ح12 .
- (3) مباني تكملة المنهاج : 1 / 5 .