(الصفحة 113)
أقول : كتاب النهاية معدّ للفتوى غاية الأمر أنّ الفتوى كانت في تلك الأزمنة بذكر الروايات خالية عن الأسانيد ، ولأجله قد عدل عن هذه الطريقة الشيخ في كتاب المبسوط على ما يظهر من مقدّمته(1) ، وإلاّ فكتاب النهاية ليس من الجوامع الروائيّة ككتابي الشيخ من الكتب الأربعة للشيعة .
نعم قد فصّل في المسألة ابن حمزة صاحب كتاب الوسيلة بين ما إذا لم يكن ذا حرفة فيخلّى سبيله ، وبين ما إذا كان ذا حرفة ، فيدفعه إلى الغريم ليستعمله(2) .
ونفى عنه البعد في محكيّ المختلف معلّلا بأنّه متمكّن من أداء ما وجب عليه ، وهو إيفاء صاحب الدين حقّه ، فيجب عليه .
أمّا الكبرى فظاهرة ، وأمّا الصغرى فلأنّ الفرض أنّه متمكّن من الكسب والتحصيل ، وكما يجب السعي في المؤونة كذا يجب في أداء الدين ، قال : ونمنع إعساره; لأنّه متمكّن ، ولا فرق بين القدرة على المال والقدرة على تحصيله; ولهذا منعنا القادر على التكسّب بالصنعة والحرفة من أخذ الزكاة باعتبار إلحاقه بالغنيّ القادر على المال ، ـ إلى أن قال : ـ والآية ـ يعني آية الإنظار ـ متأوّلة بالعاجز عن التكسّب والتحصيل ، وكذا ما ورد من الأخبار(3) . وأورد عليه في الجواهر : بأنّ ذلك لا يفيد إلاّ وجوب التكسّب عليه ، وهو غير دفعه إليهم ، وجعلهم أولياء إن شاءوا استعملوه ، وإن شاءوا آجروه(4) .
أقول : أصل وجوب التكسّب عليه محلّ كلام ، فإنّ قوله تعالى :
{وَإِن كَانَ ذُو
- (1) المبسوط : 1 / 2 ـ 3 .
- (2) الوسيلة : 212 .
- (3) مختلف الشيعة : 8 / 471 مسألة 72 .
- (4) جواهر الكلام : 40 / 166 .
(الصفحة 114)
عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة}(1) ظاهر في أنّ الوجوب عليه إنّما هو بعد تحقّق اليسار ، كما أنّ وجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة ، ولكن لا يلزم تحصيلها بوجه ، وإن علم بأنّ في التجارة الكذائيّة تحصل الاستطاعة . والتنظير بباب الزكاة في غير محلّه ، فإنّ الملاك هناك الفقير والمسكين ، ولا يكاد ينطبق شيء منهما على من له قدرة الفعل والعمل ، وإن لم يكن غنيّاً بالفعل ، والملاك هنا الإعسار والإيسار ، والعسر متحقّق بأن لا يكون له بالفعل مال يقدر به على أداء دينه ، وإن كان قادراً على الفعل والعمل; ولذا ذكر أنّ الآية مقيّدة بالعاجز عن التكسّب والتحصيل ، وهو يدلّ على أنّ القادر عليه أيضاً ينطبق عليه عنوان الإعسار ، لكن يرد عليه : أنّه ما الدليل على هذا التقييد في الآية والاخبار؟
وإذا كان الأمر دائراً بين أن يكون وجوب أداء الدين وجوباً مطلقاً ، يجب تحصيله ولو بمقدّماته ، أو وجوباً مشروطاً باليسار الفعلي والتمكّن منه بالفعل ، فلا يجب تحصيل الشرط كالاستطاعة المذكورة . فإنّه وإن كان يخطر بالبال صحّة التمسّك بالإطلاق في مواضع الجواز ، وهي وجود مقدّمات الحكمة ، كما اختاره المحقّق الخراساني على ما في الكفاية(2) وبعض تلامذته ، إلاّ أنّ الظاهر عدم إفادة هذا النحو من التمسّك للمقام ونحوه ، كالدوران بين العيني والكفائي ، أو بين التعييني والتخييري; لأنّ الإطلاق الذي يثبت في أمثال المقام هو الإطلاق المقسمي المردّد بين المطلق والمشروط ، لا الإطلاق القسمي في مقابل المشروط; لأنّه لا يمكن أن يكون المقسم عين بعض الأقسام من دون زيادة ، كما حقّقناه في محلّه .
- (1) سورة البقرة 2 : 280 .
- (2) كفاية الاُصول : 288 ـ 289 .
(الصفحة 115)مسألة 6 : لو ادّعى المقرّ الإعسار وأنكره المدّعي ، فإن كان مسبوقاً باليسار فادّعى عروض الإعسار فالقول قول منكر العسر ، وإن كان مسبوقاً بالعسر فالقول قوله ، فإن جُهل الأمران ففي كونه من التداعي أو تقديم قول مدّعي العسر تردّد ، وإن لا يبعد تقديم قوله1.
وبعد عدم فائدة في التمسّك بالإطلاق تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وهو يقتضي عدم الوجوب في الزائد على القدر المتيقّن ، وهي صورة وجود الشرط كما لايخفى ، والتحقيق الزائد في محلّه .
فانقدح أنّه كما لا يترتّب على وجوب التكسّب جواز دفع شخص المديون إلى غريمه أو الغرماء ، كذلك لا دليل على أصل الوجوب عليه مع كونه ذا عسرة ، بل لابدّ من الإنظار إلى اليسار ، فتدبّر .
المقام السادس : أنّه لا فرق فيما ذكر من أحكام الدين بين أن يكون المديون رجلا أو امرأة ، ومجرّد كونه امرأة لا يقتضي عدم جواز الحبس للحاكم عند المماطلة مع الوجدان ، غاية الأمر أنّه لابدّ من رعاية الأحكام المربوطة بالمرأة ، كسائر الموارد التي يكون الحكم فيها حبس المرأة ، كالمرتدّة وغيرها .
1 ـ لا شبهة في أنّ مقتضى الاستصحاب بقاء ما كان من العسر أو عدمه من اليسار ، فإذا كان مسبوقاً بالعسر المعلوم فالقول قول مدّعي العسر ، وإن كان مسبوقاً باليسار كذلك فالقول قول منكر العسر; للإستصحاب في كلا الفرضين . إلاّ أنّ المستفاد من المتن أنّ الملاك في تشخيص المدّعي والمنكر هو الموافقة للأصل والمخالفة له ، مع أنّه قد تقدّم منه الخلاف في ذلك ، وأنّ التشخيص في ذلك راجع إلى العرف بعد عدم ثبوت حقيقة شرعيّة فيهما ولا مجاز أصلا ، وكون المحكّم في أمثاله
(الصفحة 116)مسألة 7 : لو ثبت عسره ، فإن لم يكن له صنعة أو قوّة على العمل فلا إشكال في إنظاره إلى يساره ، وإن كان له نحو ذلك ، فهل يسلّمه الحاكم إلى غريمه ، ليستعمله أو يؤاجره ، أو أنظره وألزمه بالكسب لتأدية ما عليه ، ويجب عليه الكسب لذلك ، أو أنظره ولم يلزمه بالكسب ، ولم يجب عليه الكسب لذلك ، بل لو حصل له مال يجب أداء ما عليه وجوه ، لعلّ الأوجه أوسطها . نعم لو توقّف إلزامه بالكسب على تسليمه إلى غريمه يسلّمه إليه ليستعمله1.
من الموارد هو العرف .
مع أنّه ليس في كلامه إشعار بأنّ تقديم قول الموافق للأصل إنّما هو لأجل كونه منكراً ، أو المنكر إنّما يقدّم قوله أوّلا مع عدم ثبوت البيّنة للمدّعي ، وثانياً يحتاج إلى الحلف على ما أنكر ، كما يشهد به قوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر(1) ، فلِمَ لا يكون كلامه ناظراً إلى إمكان وجود البيّنة للمدّعي ، وإلى أنّ تقديم قول المنكر إنّما يكون مع حلفه؟
ثمّ إنّ نفي البعد عن تقديم قول مدّعي العسر فيما لو جُهل الأمران : الإعسار والإيسار ـ ولأجله لا يجري الأصل في بادئ النّظر ـ لعلّه لأجل أنّ الإعسار والإيسار وإن كانا أمرين وجوديّين ، إلاّ أنّ الإعسار يرجع في الحقيقة إلى أمر عدميّ ، وهو عدم كونه واجداً . وفي دوران الأمر بين الوجوديّ الحادث والعدميّ الموافق للأصل ، يكون التقديم مع قول مدّعي الثاني; لأجل كونه منكراً كما لايخفى .
1 ـ تقدّم البحث في هذه المسألة في المقام الخامس من شرح المسألة الخامسة فراجع .
- (1) تفسير القمّي : 2 / 156 ، الوسائل : 27 / 293 ، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح3 .
(الصفحة 117)مسألة 8 : إذا شكّ في إعساره وإيساره ، وطلب المدّعي حبسه إلى أن يتبيّن الحال حبسه الحاكم ، وإذا تبيّن إعساره خلّى سبيله وعمل معه كما تقدّم ، ولا فرق في ذلك وغيره بين الرجل والمرأة ، فالمرأة المماطلة يعمل معها نحو الرجل المماطل ، ويحبسها الحاكم كما يحبس الرجل إلى تبيّن الحال1.
1 ـ في صورة الشكّ في الإعسار وعدمه ، وطلب المدّعي من الحاكم الحبس إلى أن يتبيّن الحال ، فجواز حبس الحاكم كذلك . إمّا أن يكون مستنده رواية غياث بن إبراهيم المتقدّمة الدالّة على أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يحبس في الدين ، وإذا تبيّن له حاجة وإفلاس خلّى سبيله ، حيث إنّها دالّة على جواز الحبس في صورة عدم التبيّن حتّى يتبيّن له الحاجة والإفلاس أو عدمه .
وإمّا أن يكون مستنده القاعدة المأخوذة من ظاهر الكتاب من قوله تعالى :
{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة}(1) ، نظراً إلى أنّ الشرط في وجوب الإنظار إلى الإيسار كونه ذا عسرة ، وهذا العنوان يحتاج إلى الإحراز ، فعند الشكّ لا يجوز للحاكم الإنظار . وإن قلنا : بأنّ وجوب أداء الدين مشروط باليسار والواجديّة ، كاشتراط وجوب الحجّ بالاستطاعة ، لكن تحصيل هذا الشرط وإن كان غير واجب على ما عرفت منّا ، إلاّ أنّ لزوم التحقيق عن حاله من حيث التحقّق وعدمه على حاله ، كما في الاستطاعة ، فإنّه وإن كان لا يلزم تحصيلها مع إمكانه ، إلاّ أنّ التحقيق عن وجودها وعدمها لازم ، كالتحقيق عن أنّ مؤنة الربح في السنة هل تكون أقلّ من الربح حيث يجب الخمس ، أو لا تكون أقلّ حتى لا يجب؟ حيث إنّ التحقيق لازم كما لايخفى .
- (1) سورة البقرة 2 : 280 .