(الصفحة 136)
المدّعي» . وهي وإن لم تدلّ على أنّ رادّ اليمين هو المنكر فقط; لأنّ كلمة «تردّ» إنّما هي بصيغة البناء على المفعول ، ومع تاء التأنيث المجازي ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الرواية إنّما هي بصدد بيان أنّ وظيفة المدّعي لا تكون إقامة البيّنة دائماً ، بل قد تردّ اليمين التي هي وظيفة المنكر على المدّعي ، فلا مجال للتمسّك بالإطلاق كما لايخفى .
ومنها : صحيحة عبيد بن زرارة المتقدّمة أيضاً عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يدّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي ، قال : يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ ، فإن لم يفعل فلا حقّ له . والظاهر أنّ المراد من الجملة الأخيرة : أنّه إذا لم يحلف المدّعي بعد ردّ المدّعى عليه اليمين عليه فلا حقّ للمدّعي ، ولا دلالة لها على حكم المقام ، نعم في بعض النسخ «فلا حقّ عليه» ، ولكن في الوسائل المطبوعة أخيراً المصحّحة ما ذكرنا .
ومنها : ما رواه المشايخ الثلاثة عن عبدالرحمان بن أبي عبدالله قال : قلت للشيخ (عليه السلام) : خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ ، فلم تكن له بيّنة بماله ، قال : فيمين المدّعى عليه ، فإن حلف فلا حقّ له ، وإن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف ، فلا حقّ له وإن لم يحلف فعليه ، وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات ، فاُقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلاّ هو ، لقد مات فلان ، وإنّ حقّه لعليه ، فإن حلف ، وإلاّ فلا حقّ له; لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو غيّر بيّنة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له ، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت الحقّ(1) .
- (1) الكافي : 7 / 415 ح1 ، التهذيب : 6 / 229 ح555 ، الفقيه : 3 / 38 ح128 ، الوسائل : 27 / 236 ، أبواب كيفيّة الحكم ب4 ح1 .
(الصفحة 137)
وموضع التمسّك بهذه الرواية فقرتان :
إحداهما : قوله (عليه السلام) : «وإن لم يحلف فعليه» لأنّه ظاهر في أنّه إذا لم يتحقّق الحلف من المنكر ، ولم يرد اليمين على المدّعي ، يثبت عليه الحقّ ويحكم الحاكم بضرره .
ويرد عليه عدم ثبوت هذه الفقرة في رواية الصدوق في الفقيه ، فلا مجال للتمسّك بها .
ثانيتهما : قوله (عليه السلام) في الذيل : «ولو كان حيّاً لألزم اليمين ، أو الحقّ ، أو يردّ اليمين عليه» لظهوره في أنّ المنكر مع عدم حلفه ، ومع عدم ردّ اليمين على المدّعي ، يلزم بالحقّ بعد حكم الحاكم . وكلمة يردّ إنّما هي بصيغة المبني للفاعل وبصورة المذكر ، فلا إطلاق لها يشمل غير المنكر .
والتحقيق في المقام أن يقال بعد ملاحظة عدم دلالة شيء من الروايات على أنّ الحاكم يردّ اليمين إلى المدّعي ، بخلاف ردّ المنكر الذي فيه روايات متعدّدة ومتكثّرة كما عرفت ، وبعد ملاحظة أنّ ردّ الحاكم يفتقر إلى أن يقوم الدليل عليه ، ويحتاج إلى البيان خصوصاً بعد الالتفات إلى أنّه ربّما يترتّب على ردّه عدم حلف المدّعي ، وبه يثبت إنكار المدّعى عليه ، وتسقط دعواه في الواقعة بالمرّة ، وحينئذ يسئل عن الدليل على هذا السقوط ، ومجرّد كون الحاكم وليّ الممتنع لا يكفي في هذه الجهة بعد عدم ثبوت حقّ على المدّعى عليه ، خصوصاً بعد جواز الحكم عليه بمجرّد النكول ، مع أنّه لا يعلم مقدار سعة هذا الأمر وضيقه على فرض صحّة صدوره بترجيح القول الأوّل ، الذي استظهره المحقّق في الشرائع ونسبه إلى الرّواية(1) ، وهو
- (1) شرائع الإسلام : 4 / 874 .
(الصفحة 138)مسألة 8 : لو رجع المنكر الناكل عن نكوله ، فإن كان بعد حكم الحاكم عليه ، أو بعد حلف المدّعي المردود عليه الحلف لا يلتفت إليه ، ويثبت الحقّ عليه في الفرض الأوّل ، ولزم الحكم عليه في الثاني من غير فرق بين علمه بحكم النكول أو لا1.
الحكم بمجرّد النكول وعدم الحلف ، أو الردّ من المنكر ، وقوله (عليه السلام) : «تردّ اليمين على المدّعي» ليس معناه لزوم ردّها إليه ولو من الحاكم ، بل معناه عدم اختصاص اليمين بالمنكر ، وجواز وقوعه من المدّعي في مقابل اليمين على من ادّعى عليه ، وإن شئت قلت : إنّ الأمر فيه لا دلالة فيه على اللزوم ، بل هو في مقام توهّم الحظر ، فلا دلالة فيه إلاّ على الإباحة .
كما أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» لا اشعار فيه على جواز الردّ; لأنّه مضافاً إلى انّه مع ردّ الحاكم ، ربّما لا يتحقّق الحلف من المدّعي ، معناه تحقّق القضاء مع ميزانيّتهما وجوداً وعدماً كما لايخفى ، وإلاّ فمع ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي ، وعدم حلفه ، تسقط دعواه بحكم الحاكم كما تقدّم .
ودعوى أنّ مقتضى الأصل حلف المدّعي بعد ردّ الحاكم إليه; لعدم ثبوت حقّه بدونه نظراً إلى أنّه القدر المتيقّن ، مدفوعة ـ مضافاً إلى ما عرفت من دلالة بعض الروايات على خلافه ـ أنّه يسأله عن الدليل على السقوط مع عدم حلفه ، مع أنّ مقتضى الأصل عدم سقوط حقّه بعد كون دعواه قابلة للطرح والسّماع ، كما هو المفروض . فالإنصاف قوّة القول الأوّل ورجحانه ، فتدبّر .
1 ـ في هذه المسألة فرعان :
الأوّل : إذا رجع المنكر الناكل عن نكوله بعد حكم الحاكم عليه ، وفي هذه
(الصفحة 139)
الصّورة يثبت الحقّ على المنكر الناكل ، ولا أثر لرجوعه أصلا; لأنّه بعد ارتفاع النزاع وفصل الخصومة بسبب حكم الحاكم الموضوع لهذه الجهة لا يبقى مجال لتجديد النزاع في هذه الواقعة ، ولا الحكم ثانياً أصلا ، كما هو واضح لا يخفى .
الثاني : ما إذا رجع المنكر المزبور بعد حلف المدّعي المردود عليه الحلف وقبل الحكم ، سواء كان الحلف مردوداً عليه من المنكر أو من الحاكم ، بناءً على قول الماتن (قدس سره) من أنّ الحاكم يردّ عليه اليمين إذا لم يحلف المنكر ولم يردّ على المدّعي . وفي هذه الصورة يلزم على الحاكم الحكم على المنكر ، وأنّ الرجوع لا أثر له أصلا; لأنّا وإن ذكرنا أنّ الرجوع قبل الحلف لا مانع منه ، إلاّ أنّ الكلام هنا في الرجوع بعد الحلف ، والظاهر أنّه لا أثر له; لظهور بعض الروايات الواردة في ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي في أنّه إذا حلف اليمين المردودة يترتّب عليها ثبوت الحقّ مطلقاً ، أي يجب على الحاكم أن يحكم على طبقه من دون انتظار أمر آخر ، مع أنّ الحكم بجواز الرجوع بعده ينجرّ إلى تعطيل القضاء وفصل الخصومة .
ولكن ذكر السيّد في الملحقات : أنّ الأقوى الالتفات إلى رجوعه; لعدم ثبوت الحقّ عليه قبل حكم الحاكم ، وإن تحقّق موجبه ، ودعوى أنّه قد وجب على الحاكم الحكم عليه بعد تحقّق الموجب فيستصحب ، مدفوعة بأنّه موقوف على عدم رجوعه لا أقلّ من الشكّ ، مع أنّ اطلاقات كون الحلف عليه شاملة لهذه الصورة ، والقدر المسلّم من حكم النكول ما إذا كان باقياً عليه(1) .
وممّا ذكرنا ظهر جوابه; لأنّه لا تصل النوبة إلى الاستصحاب مع ظهور الرّواية
- (1) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 68 ذ مسألة 17 .
(الصفحة 140)مسألة 9 : لو استمهل المنكر في الحلف والردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه ، جاز إمهاله بمقدار لا يضرّ بالمدّعي ، ولا يوجب تعطيل الحقّ والتأخير الفاحش ، نعم لو أجاز المدّعي جاز مطلقاً بمقدار إجازته1.
مسألة 10 : لو قال المدّعي : لي بيّنة لا يجوز للحاكم إلزامه بإحضارها ، فله أن يحضرها ، أو مطالبة اليمين ، أو ترك الدعوى ، نعم يجوز له إرشاده
في خلافه ، فالظاهر هو عدم الالتفات إليه ، كما في المتن .
ثمّ إنّه حكي عن الرياض التفصيل بين صورة العلم وصورة الجهل(1) ، والظّاهر أنّه لا وجه له بعد عدم كون الجهل عذراً في الأحكام الوضعيّة ، كما في الاتلاف الموجب للضمان ، فإنّه لا فرق فيه بين الصورتين ، بل وبين صورة ثبوت التكليف وعدمه كما في النائم ، كما لا يخفى .
1 ـ لو استمهل المنكر في الحلف والردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه ، ففيه صورتان :
الاُولى : صورة إجازة المدّعي الذي يدّعى عليه الحقّ عيناً أو ديناً ، وفي هذه الصورة يجوز للمدّعي الإمهال مطلقاً ، ويقتصر على مقدار إجازته لأنّه صاحب الحقّ احتمالا ، ولا يعدو عنه كما هو المفروض ، فيجوز له ذلك مطلقاً .
الثانية : ما إذا أراد الحاكم الإمهال ، وفي هذه الصورة لابدّ من الاقتصار في الإجازة على مقدار لا يضرّ بالمدّعي على تقدير كونه محقّاً ، ولا يوجب تعطيل الحقّ والتأخير الفاحش ، مع كون المقصود من الحكم فصل الخصومة ووصول الحقّ إلى صاحبه ، كما لا يخفى .
- (1) رياض المسائل : 9 / 314 .