(الصفحة 148)
عن البيّنة ما لم يُرد المدّعي إقامتها ، وهذا وأشباهه دليل على عدم كون وجوب الحكم وجوباً مطلقاً كالوضوء في المثال .
الثاني : دلالة الرواية المنقولة عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن بن عليّ العسكري (عليهما السلام) ، عن آبائه ، عن عليّ (عليه السلام) المفصّلة الدالّة على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي : ألكَ حجّة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه ، وإن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه ـ إلى أن قال : ـ وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ ، قال للشهود : أين قبائلكما؟ فيصفان ـ إلى أن قال : ـ ثمّ يأمر فيكتب أسامي المدّعي والمدّعى عليه والشهود ، ويصف ما شهدوا به ثم يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار ، ثم مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه ، ثم يقول : ليذهب كلّ واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما فيسأل عنهما فيذهبان ويسألان ، فإن أتوا خيراً ـ إلى أن قال : ـ قضى حينئذ بشهادتهما على المدّعى عليه ، فإن رجعا بخبر سيّىً لم يهتك ستر الشاهدين ، ولكن يدعو الخصوم إلى الصّلح; لئلاّ يفتضح الشهود ، فإن كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون ولا قبيلة لهما ، فإن قال المدّعى عليه : ما عرفنا أي في الشهود إلاّ خيراً غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليّ ، أنفذ شهادتهما ، وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصم وخصمه ، وأحلف المدّعى عليه ، وقطع الخصومة بينهما(1) .
هذا ، ولكن صحّة التفسير المذكور وانتسابه إلى الإمام (عليه السلام) غير معلومة ، وإن نقل عنه في الوسائل ولم ينقل عن مثل فقه الرضا ، لكن اعتماد الوسائل ليس بحجّة شرعيّة ، نعم بعد ملاحظة قاعدة التسامح في أدلّة السنن لا مجال للارتياب في
- (1) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) : 284 ، الوسائل : 27 / 239 ، أبواب كيفية الحكم ب6 ح1 .
(الصفحة 149)
استحباب الفحص .
ولولا الشكّ في انتساب الكتاب المزبور لما كان للحمل على الاستحباب وجه; لأنّ فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) وإن كان أعمّ من الوجوب لاحتمال الاستحباب ، إلاّ أنّه لمّا كان الحاكي عنه هو المعصوم (عليه السلام) ، وكان الغرض من حكايته بيان الحكم بهذه الكيفيّة; لكان اللاّزم هو الأخذ بظاهر كلامه الدالّ على اللزوم في مثل المقام ، كما لايخفى .
ثمّ إنّه لا إشكال في عدم وجوب الفحص عن الجارح لو قال للمدّعى عليه وطلب منه الجرح بالإضافة إلى البيّنة المقبولة عنده ، وقال : لا طريق لي أو يعسر عليّ ، بل يحكم الحاكم بنفع المدّعي .
نعم لو استمهله المدّعى عليه لإحضار الجارح ، فتارةً يدّعي الإحضار في مدّة طويلة يتضرّر فيها المدّعي ، ويتضيّع حقّه الذي يدّعيه ، فلا إشكال في عدم جواز الإمهال المدّة المذكورة ، بل يحكم على طبق البيّنة المقبولة بنفع المدّعي . واُخرى يستمهل لإحضار الجارح مطلقاً ، فربّما يقال كما عن المبسوط : بإمهاله ثلاثة أيّام(1) ، كما أنّه يحتمل الإمهال مدّة يمكنه فيها الاحضار .
ويحتمل ثالثاً عدم وجوب الإمهال أصلا ، فيجوز أو يجب عليه الحكم . غاية الأمر أنّه إن أتى بالجارح ينقض الحاكم الحكم ، فيه وجوه واحتمالات ، ولكن لا يبعد الاحتمال المتوسّط ووجوب الإمهال بالمقدار المتعارف; لعدم الدليل المعتبر على مقدار ثلاثة أيّام ، وربّما يكون جاهلا بأن يقيم المدّعي البيّنة المقبولة ، ويحتمل فيه الاستحلاف وطلب الحلف من المنكر ، فأصل الإمهال رعاية لعدم تضييع الحقّ لازم لا ريب فيه ، وأمّا الإمهال ثلاثة أيّام فلا دليل عليه .
(الصفحة 150)مسألة 17 : لو أقام البيّنة على حقّه ولم يعرفهما الحاكم بالعدالة ، فالتمس المدّعي أن يحبس المدّعى عليه حتّى يثبت عدالتهما ، قيل : يجوز حبسه ، والأقوى عدم الجواز ، بل لا يجوز مطالبة الكفيل منه ولا تأمين المدّعى به ، أو الرهن في مقابل المدّعى به1.
1 ـ قد تعرّض الأصحاب لنظير هذه المسألة ، قال المحقّق في الشرائع : ولو ذكر المدّعي أنّ له بيّنة غائبة خيّره الحاكم بين الصّبر وبين إحلاف الغريم ، وليس له ملازمته ولا مطالبته بكفيل(1) . قال في الجواهر : وفاقاً للمحكي عن أكثر المتأخرين بل عامّتهم(2) ، والاسكافي ، والشيخ في الخلاف والمبسوط ، والحلّي ، والقاضي في أحد قوليه(3) إلى أن قال : خلافاً للمحكي عن الشيخين في المقنعة والنهاية ، والقاضي في أحد قوليه ، وابني حمزة وزهرة نافياً للخلاف فيه ظاهراً(4) ،(5) .
والدليل على قول الأوّل أنّه لا معنى للعقوبة على الحقّ قبل ثبوته ، كما هو المفروض ، على أنّ الكفيل يلزمه ا لحقّ إن لم يحضر المكفول ، وهنا لا معنى له قبل إثباته ، ولا معنى لكون حضور الدّعوى وسماع البيّنة حقّاً يكفل عليه .
- (1) شرائع الإسلام : 4 / 875 .
- (2) رياض المسائل : 9 / 295 ـ 296 ، مسالك الأفهام : 13 / 464 ، كشف الرموز : 2 / 500 ، قواعد الأحكام : 2 / 210 ، إيضاح الفوائد : 4 / 335 ، اللمعة الدمشقيّة : 51 ، المقتصر : 377 .
- (3) حكاه في المختلف : 8 / 376 عن الإسكافي ، الخلاف : 6 / 237 مسألة 36 ، المبسوط : 8 / 159ـ 160 ، السرائر : 2 / 158 ـ 159 ، المهذب : 2 / 586 .
- (4) المقنعة : 733 ، النهاية : 339 ، ونقله عن الكامل للقاضي ابن البرّاج في المختلف : 8 / 376 ، الوسيلة : 212 ، الغنية : 445 .
- (5) جواهر الكلام : 4 / 205 .
(الصفحة 151)
وعلى القول الآخر قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، فإنّه قد يهرب المدّعى عليه ، ولا يتمكّن المدّعي من تحصيل الحقّ ، فيجب حينئذ مقدّمته للزوم مراعاة حقّ المسلم من الذهاب في نفس الأمر ، والإلزام بالكفيل أو الحبس وإن كان ضرراً إلاّ أنّ ذهاب الحقّ أيضاً ضرر ، وعلى الحاكم مراعاة الأقلّ منهما ضرراً ، ولعلّه التكفيل .
هذا ، ويظهر عن محكيّ الرياض التفصيل في المسألة ، بأنّه إن خيف هرب المنكر ، وعدم التمكّن من استيفاء الحقّ بعد ثبوته من ماله فالقول الثاني لا يخلو من رجحان ، ولو لم يتحقّق الخوف من ذلك أمكن ترجيح القول الأوّل(1) ، وبهذا التفصيل صرّح الفاضل المقداد فيما حكي عنه(2) .
أقول : أما قاعدة نفي الضرر والضرار فمضافاً إلى الاختلاف فيها في كونها حكماً حكوميّاً أو شرعيّاً بالعنوان الأوّلي أو الثانوي ، يرد على الاستدلال بها أنّه لا وجه لجريانها في المقام إذ الضرر لا يدفع بالضرر ، مع أنّها لا تقتضي تعجيل الضرر على المسلم باحتمال ضرر الآخر ، وعدم تمكّن المدّعي من تحصيل حقّه على فرض الهرب فرضاً لا يرتبط بالحاكم الذي لا تكون وظيفته بعد سماع الدعوى إلاّ الحكم على طبق مثل البيّنة العادلة أو اليمين ، وإلاّ يجب على الحاكم ذلك قبل طرح الدعوى; لئلاّ يضيّع حقّه . نعم بعد ثبوت الدعوى تجري مسألة الحبس ، كما تقدّم من حبس المديون الواحد المتمكّن من أداء الدين الممتنع عنه(3) . فالإنصاف ما أفاده الماتن (قدس سره)من أنّه لا تجوز مطالبة الكفيل منه ، ولا تأمين المدّعى به أو الرهن في مقابله .
- (1) رياض المسائل : 9 / 297 .
- (2) التنقيح الرائع : 4 / 252 ـ 253 .
- (3) في ص110 ـ 111 .
(الصفحة 152)مسألة 18 : لو تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة انتقض الحكم ، وإن كان طارئاً بعد الحكم لم ينتقض ، وكذا لو تبيّن فسقهما بعد الشهادة وقبل الحكم على الأشبه1.
1 ـ لا شبهة في اعتبار العدالة في الشاهدين ، وهل العدالة المعتبرة إنّما هي بنحو الشرط العلمي نحو العدالة في إمام الجماعة ، أو الواقعي كما في الشاهدين في باب الطلاق؟ يظهر من صاحب الجواهر : أنّه لولا اتّفاق كلمة الأصحاب ظاهراً ، وأصالة الواقعيّة في الشرائط ، ولو كانت مستفادة من قوله تعالى :
{وَأَشْهِدُوا ذَوي عَدل مِنكُم}(1) لأمكن أن يدّعى أنّ الشرط علميّ; لاطلاق ما دلّ على نفوذ الحكم وعدم جواز ردّه ، إذا كان على نحو قضائهم (عليهم السلام) ، وعلى حسب الموازين التي نصبوها لذلك ، ولا دليل على اشتراط أزيد من ذلك حتّى قوله تعالى المذكور; لأنّ المراد منه ذوي عدل عندكم ، لا أقل من الشكّ ، فيبقى ما دلّ على نفوذ الحكم بحاله ، إلاّ أن يقال بالفرق بين ما هنا وبين الجماعة ، بأنّ المدار هناك على الصلاة خلف من تثق بعدالته ، كما في النص ، بخلاف المقام المعتبر كونه عدلا(2) . وكيف كان فبناءً على اعتبار العدالة الواقعيّة يكون في المسألة صور ثلاث :
الاُولى : ما إذا تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة ، وفي هذه الصورة لاشكّ في انتقاض الحكم بنفسه وصيرورته كالعدم; لأنّ الحكم كان مستنداً إلى شهادتهما ، والمفروض تبيّن الفسق للحاكم الرافع للخصومة ، فكأنّه لم يصدر منه حكم أصلا .
- (1) سورة الطلاق : 65 / 2 .
- (2) جواهر الكلام : 40 / 113 ـ 114 .