(الصفحة 19)
أحدها : مثل قوله تعالى :
{يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النّاس بِالحقِّ وَلاَ تَتَّبِع الهَوَى}(1) نظراً إلى ظهور الأمر في الوجوب ، مع أنّه يمكن أن يكون في مقام توهّم الخطر ، وصيغة افعل وأمثالها في هذا المقام لا دلالة لها على الوجوب ، بل على الجواز كما قرّر في محلّه . مع أنّ إيجاب الحكم على تقديره متفرّع على جعله تعالى داود خليفة في الأرض ـ ومن الواضح أنّ هذه الخلافة التشريعيّة غير الخلافة التكوينيّة الثابتة للعموم ـ ومورداً لاعتراض الملائكة بقولهم :
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}(2) ، ومن الواضح أنّ الخلافة التشريعيّة لا تتجاوز عن الأنبياء والأوصياء ، مضافاً إلى أنّ التفريع إنّما هو بالإضافة إلى الحكم بالحق لا أصل الحكم ، فمثل هذه الآية لا دلالة لها على وجوب القضاء على الفقيه الجامع للشرائط ، وإن رأى نفسه كذلك واعتقده الناس .
ثانيها : اختلال النظام بدونه ، ويرد عليه :
أوّلا : أنّ اللازم بناءً على ذلك كون القضاء في رديف الواجبات النظاميّة ، مثل النّجارة والبناية وغيرهما . وعرف المتشرّعة يأباه .
وثانياً : أنّ الواجب في هذا الباب هو حفظ النظام ، والاُمور المقدّميّة لا تتلبّس بالوجوب ، بعد عدم ثبوت الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوبها ، كما قد قرّر في علم الاُصول . ومجرّد لزوم المقدّمة عقلا لايستلزم ثبوت الملازمة .
وثالثاً : أنّه يمكن إحقاق الحقوق بطريق آخر غير القضاء ، ولزوم تضييع الحقوق أزيد من القضاء ممنوع .
- (1) سورة ص 38 : 26 .
- (2) سورة البقرة 2 : 30 .
(الصفحة 20)
ثالثها : مقدّميّة القضاء للنهي عن المنكر ، ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم ثبوت الملازمة في بحث المقدّمة ـ أنّك قد عرفت عدم ارتباط باب القضاء بمسألة النهي عن المنكر ، إذ ربّما يكون المتداعيان في كمال التعهّد والتديّن .
وبالجملة : لم يقم دليل على وجوب القضاء بالإضافة إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، وكونه مجعولا قاضياً أو حاكماً ـ كما في المقبولة والمشهورة ـ لا دلالة فيه إلاّ على الصلاحيّة والشأنيّة وثبوت المنصب له ، لا الوجوب في مقام العمل . فاللازم الاستدلال له بما هو المرتكز والمغروس في أذهان المتشرّعة من الوجوب .
الأمر الثاني : في الحرمة بالإضافة إلى من لم يرَ نفسه جامعاً للشرائط ، ولو في الأشياء الحقيرة اليسرة ، وليعلم الفرق بين المقام وبين باب صلاة الجماعة ، التي ربّما يقال فيها بجواز تصدّي الإمامة فيها لمن لم يرَ نفسه عادلا مثلا إذا كان المأموم معتقداً بعدالته ، وذلك لأنّ القضاء فعل القاضي وهو يتلبّس به ، والجماعة متقوّمة بالمأمومين المؤتمّين . فاعتقاد كلّ من القاضي في المقام والمأموم هناك هو الملاك والمعيار ، فلا يقاس القاضي هنا بالإمام هناك ، كما أنّه لابدّ من توضيح أنّ الكلام هنا في الحرمة التي هي حكم تكليفيّ زائدة على الفساد ، وعدم صحّة القضاء وعدم نفوذه بلحاظ عدم الجامعيّة للشرائط الآتية .
وبعبارة اُخرى محلّ البحث ثبوت الحرمة التكليفيّة المستتبعة لاستحقاق العقوبة ، مع التفاوت القاضي إلى عدم ترتّب حكم شرعيّ على فصل خصومة ورفع منازعة; لعدم ثبوت هذا المنصب الشرعيّ له بلحاظ عدم الجامعيّة . فهنا أمران : البطلان والفساد ، والحرمة الموجبة للإثم ، إذ ليس البحث في الفساد بعد أنّه
(الصفحة 21)
لا يرى لنفسه الجامعيّة لشرائط الفتيا ، بخلاف البيع الفاسد مثلا ، فإنّه لا يكون فيه إلاّ الفساد وعدم تأثير التمليك والتملّك ، ويترتّب عليه الاُمور المذكورة في المقبوض بالبيع والعقد الفاسد . وأمّا الحرمة التكليفيّة بالإضافة إلى أصل عقد المعاملة والإنشاء اللفظي أو الكتبي فلا .
وحينئذ نقول : ربّما يستدلّ على حرمة القضاء الذي هو فعل القاضي في المقام بعدّة من الروايات :
مثل : مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السّلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت . وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً ، وإن كان حقّاً ثابتاً له; لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يُكفَر به ، قال الله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(1) الحديث(2) ، وقد نوقش في ابن حنظلة بعدم ثبوت وثاقته ، نظراً إلى أنّ الراوي لوثاقته هو يزيد بن خليفة ، وهو لم تثبت وثاقته ، ولكن التعبير عن الرواية بالمقبولة يدفع ذلك خصوصاً مع ملاحظة أنّ متنها شاهد على صدقه ، كما لايخفى .
وصحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : بعثني أبو عبدالله (عليه السلام) إلى أصحابنا ، فقال : قل لهم : إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى(3) في شيء من
- (1) سورة النساء 4 : 60 .
- (2) الكافي : 1 / 67 ح10 ، التهذيب : 6 / 218 ح514 ، الوسائل : 27 / 136 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
- (3) التدارُؤ : التدافع في الخصومة ، القاموس المحيط «درأ» .
(الصفحة 22)
الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق . الحديث(1) ، وغيرهما من الروايات الواردة بهذا المضمون ، نظراً إلى أنّ المعنى المطابقي للجميع وإن كان هي حرمة التحاكم والترافع إلى القضاة المنصوبين في زمان الأئمة (عليهم السلام) من قبل سلطان الجور الغاصب للولاية والحكومة ، إلاّ أنّ المدلول الالتزامي هي حرمة القضاء وفصل الخصومة لهم ، كما يدلّ عليه فهم العرف ، مضافاً إلى أنّ التعبير عنهم بالطاغوت والفسّاق يدلّ على مبغوضيّة عملهم ، بل أشدّ المبغوضيّة كما لايخفى .
ويرد على الاستدلال بالروايتين ومثلهما : أنّه لو سلمت الدلالة الالتزاميّة المذكورة ، فلا دلالة لهما على الحرمة في غير موردهما ، مع أنّ المدّعى أعمّ وأوسع منه ، فهل لهما دلالة على أنّ القاضي الشيعيّ الذي لا يكون منصوباً لا من قبل سلطان الجور ولا من ناحية الأئمة (عليهم السلام); لعدم ثبوت العدالة فيه وهو يعتقد أيضاً ذلك ، إذا فصّل الخصومة ورفع التنازع يكون عمله هذا ـ مضافاً إلى عدم الصحّة وعدم النفوذ ـ محكوماً بالحرمة التكليفية كحرمة شرب الخمر مثلا ، أو لا يستفاد منهما ذلك؟ الظاهر هو العدم ، والإصرار الأكيد على عدم التحاكم إلى الطاغوت لا دلالة له على الحرمة المطلقة في المقام ، كما أنّها المدّعى فتدبّر .
الأمر الثالث : في أنّ وجوب القضاء بأيّ معنى فسّرناه ليس على تقديره إلاّ وجوباً كفائيّاً لا عينيّاً ، ضرورة عدم لزومه على كلّ أحد ، خصوصاً مع ملاحظة الشرائط المعتبرة فيه الآتية إن شاء الله تعالى ، فالوجوب كفائيّ قد يتعيّن إذا لم يكن في البلد ، وكذا فيما يقرب إليه ـ ممّا لا يتعسّر الرجوع إليه ـ من يكون به الكفاية ، كما هو الشأن في سائر الواجبات الكفائيّة ، إذا لم يكن من يقوم بها . وأمّا التعيّن مع
- (1) التهذيب : 6 / 303 ح846 ، الوسائل : 27 / 139 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح6 .
(الصفحة 23)مسألة 3 : يستحبّ تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه ، والأولى تركه مع وجود من به الكفاية; لما فيه من الخطر والتّهمة1.
وجود من به الكفاية بسبب اختيار المترافعين أو الناس فلم يقم عليه دليل ، كما لايخفى .
1 ـ في هذه المسألة
أمران :
الأمر الأوّل : الدليل على الاستحباب في الصورة المذكورة في المتن ، وهو مضافاً إلى كونه من مصاديق إقامة العدل والإحسان المأمور بها عقلا وشرعاً روايات :
منها : رواية سلمة بن كهيل المشتملة على وصيّة عليّ (عليه السلام) لشريح القاضي والمتضمّنة لقوله (عليه السلام) : وإيّاك والتضجّر والتأذي في مجلس القضاء ، الذي أوجب الله فيه الأجر ، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ(1) .
وفي سلمة وإن كان ضعفاً كما صرّح به المحقّق في الشرائع(2) ، إلاّ أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن الثابتة في الاُصول جارية هنا .
ومنها : الروايات الكثيرة الواردة في الحكم بإقامة الحدّ المذكورة في الوسائل في أبواب مقدّمات الحدود الدالّة على رجحانه(3) .
وفي بعضها : أنّ المراد بقول الله عزّوجلّ :
{يُحي الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا}(4) ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء
- (1) الكافي : 7 / 412 ح1 ، الوسائل : 27 / 211 ، أبواب آداب القاضي ب1 ح1 .
- (2) شرائع الإسلام : 4 / 1052 .
- (3) الوسائل : 28 / 11 ، أبواب مقدّمات الحدود وأحكامها ب1 .
- (4) سورة الحديد 57 : 17 .