(الصفحة 21)
لا يرى لنفسه الجامعيّة لشرائط الفتيا ، بخلاف البيع الفاسد مثلا ، فإنّه لا يكون فيه إلاّ الفساد وعدم تأثير التمليك والتملّك ، ويترتّب عليه الاُمور المذكورة في المقبوض بالبيع والعقد الفاسد . وأمّا الحرمة التكليفيّة بالإضافة إلى أصل عقد المعاملة والإنشاء اللفظي أو الكتبي فلا .
وحينئذ نقول : ربّما يستدلّ على حرمة القضاء الذي هو فعل القاضي في المقام بعدّة من الروايات :
مثل : مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السّلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت . وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً ، وإن كان حقّاً ثابتاً له; لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يُكفَر به ، قال الله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(1) الحديث(2) ، وقد نوقش في ابن حنظلة بعدم ثبوت وثاقته ، نظراً إلى أنّ الراوي لوثاقته هو يزيد بن خليفة ، وهو لم تثبت وثاقته ، ولكن التعبير عن الرواية بالمقبولة يدفع ذلك خصوصاً مع ملاحظة أنّ متنها شاهد على صدقه ، كما لايخفى .
وصحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال : بعثني أبو عبدالله (عليه السلام) إلى أصحابنا ، فقال : قل لهم : إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى(3) في شيء من
- (1) سورة النساء 4 : 60 .
- (2) الكافي : 1 / 67 ح10 ، التهذيب : 6 / 218 ح514 ، الوسائل : 27 / 136 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
- (3) التدارُؤ : التدافع في الخصومة ، القاموس المحيط «درأ» .
(الصفحة 22)
الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق . الحديث(1) ، وغيرهما من الروايات الواردة بهذا المضمون ، نظراً إلى أنّ المعنى المطابقي للجميع وإن كان هي حرمة التحاكم والترافع إلى القضاة المنصوبين في زمان الأئمة (عليهم السلام) من قبل سلطان الجور الغاصب للولاية والحكومة ، إلاّ أنّ المدلول الالتزامي هي حرمة القضاء وفصل الخصومة لهم ، كما يدلّ عليه فهم العرف ، مضافاً إلى أنّ التعبير عنهم بالطاغوت والفسّاق يدلّ على مبغوضيّة عملهم ، بل أشدّ المبغوضيّة كما لايخفى .
ويرد على الاستدلال بالروايتين ومثلهما : أنّه لو سلمت الدلالة الالتزاميّة المذكورة ، فلا دلالة لهما على الحرمة في غير موردهما ، مع أنّ المدّعى أعمّ وأوسع منه ، فهل لهما دلالة على أنّ القاضي الشيعيّ الذي لا يكون منصوباً لا من قبل سلطان الجور ولا من ناحية الأئمة (عليهم السلام); لعدم ثبوت العدالة فيه وهو يعتقد أيضاً ذلك ، إذا فصّل الخصومة ورفع التنازع يكون عمله هذا ـ مضافاً إلى عدم الصحّة وعدم النفوذ ـ محكوماً بالحرمة التكليفية كحرمة شرب الخمر مثلا ، أو لا يستفاد منهما ذلك؟ الظاهر هو العدم ، والإصرار الأكيد على عدم التحاكم إلى الطاغوت لا دلالة له على الحرمة المطلقة في المقام ، كما أنّها المدّعى فتدبّر .
الأمر الثالث : في أنّ وجوب القضاء بأيّ معنى فسّرناه ليس على تقديره إلاّ وجوباً كفائيّاً لا عينيّاً ، ضرورة عدم لزومه على كلّ أحد ، خصوصاً مع ملاحظة الشرائط المعتبرة فيه الآتية إن شاء الله تعالى ، فالوجوب كفائيّ قد يتعيّن إذا لم يكن في البلد ، وكذا فيما يقرب إليه ـ ممّا لا يتعسّر الرجوع إليه ـ من يكون به الكفاية ، كما هو الشأن في سائر الواجبات الكفائيّة ، إذا لم يكن من يقوم بها . وأمّا التعيّن مع
- (1) التهذيب : 6 / 303 ح846 ، الوسائل : 27 / 139 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح6 .
(الصفحة 23)مسألة 3 : يستحبّ تصدّي القضاء لمن يثق بنفسه القيام بوظائفه ، والأولى تركه مع وجود من به الكفاية; لما فيه من الخطر والتّهمة1.
وجود من به الكفاية بسبب اختيار المترافعين أو الناس فلم يقم عليه دليل ، كما لايخفى .
1 ـ في هذه المسألة
أمران :
الأمر الأوّل : الدليل على الاستحباب في الصورة المذكورة في المتن ، وهو مضافاً إلى كونه من مصاديق إقامة العدل والإحسان المأمور بها عقلا وشرعاً روايات :
منها : رواية سلمة بن كهيل المشتملة على وصيّة عليّ (عليه السلام) لشريح القاضي والمتضمّنة لقوله (عليه السلام) : وإيّاك والتضجّر والتأذي في مجلس القضاء ، الذي أوجب الله فيه الأجر ، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ(1) .
وفي سلمة وإن كان ضعفاً كما صرّح به المحقّق في الشرائع(2) ، إلاّ أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن الثابتة في الاُصول جارية هنا .
ومنها : الروايات الكثيرة الواردة في الحكم بإقامة الحدّ المذكورة في الوسائل في أبواب مقدّمات الحدود الدالّة على رجحانه(3) .
وفي بعضها : أنّ المراد بقول الله عزّوجلّ :
{يُحي الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا}(4) ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء
- (1) الكافي : 7 / 412 ح1 ، الوسائل : 27 / 211 ، أبواب آداب القاضي ب1 ح1 .
- (2) شرائع الإسلام : 4 / 1052 .
- (3) الوسائل : 28 / 11 ، أبواب مقدّمات الحدود وأحكامها ب1 .
- (4) سورة الحديد 57 : 17 .
(الصفحة 24)
العدل ، ولإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً(1) .
وكيف كان فلا شبهة نصّاً وفتوىً في أصل الاستحباب المذكور .
الأمر الثاني : أنّه كيف يجمع بين هذا الاستحباب وبين الحكم بوجوب القضاء كفايةً أو عيناً كما تقدّم ، مع أنّ المتعلّقين واحد ، ولابدّ في ثبوت حكمين من تغاير المتعلّقين . فإنّه وإن لم يكن بين الأحكام الخمسة التكليفيّة تضادّ اصطلاحاً ، كما حقّقناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من المباحث الأصوليّة ، خلافاً للمحقّق الخراساني (قدس سره) ، الذي جعل إحدى مقدّمات الامتناع بل أهمّها التضادّ بينها(2) ، والوجه فيه : أنّه من عوارض الوجود المتأصل ولو بالعرض ، والأحكام اُمور اعتباريّة محضة; ولذا لا يمكن اجتماع السواد والبياض في جسم واحد ولو كان من ناحية شخصين ، واجتماع الأحكام كذلك من الموالي المتعدّدة بالنسبة إلى عبيدهم أمر ممكن ، وإن كان المتعلّق طبيعة واحدة لا زيادة فيها ولا نقيصة ، وهو واضح جدّاً ، إلاّ أنّه لا يكاد ينكر امتناع اجتماع حكمين على طبيعة واحدة بملاك آخر ، وفي المقام لابدّ في الجمع بين الحكمين من الالتزام بثبوت المغايرة بين المتعلّقين فنقول :
ذكر السيّد (قدس سره) في ملحقات العروة : أنّه يمكن أن يجاب عن الإشكال بأنّ المراد من استحبابه العيني استحباب المبادرة إليه والمسابقة على الغير ، فيختلف موضع الحكمين(3) .
لكنّه أورد عليه بأنّه يبقى إشكال آخر وهو أنّه كيف يعقل استحباب المبادرة من كلّ أحد عيناً ، مع كونه واحداً لا يقبل التكرار ، بل لا يتصوّر استحباب مثله عيناً
- (1) الكافي : 7 / 174 ح2 ، التهذيب : 10 / 146 ح578 ، الوسائل : 28 / 12 ، أبواب مقدّمات الحدود ب1 ح3 .
- (2) كفاية الاُصول : 193 .
- (3) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 4 مسألة 6 .
(الصفحة 25)مسألة 4 : يحرم الترافع إلى قضاة الجور ـ أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء ـ فلو ترافع إليهم كان عاصياً ، وما أخذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً ، وفي العين إشكال إلاّ إذا توقّف استيفاء حقّه على الترافع إليهم ، فلايبعد جوازه سيّما إذا كان في تركه حرج عليه ، وكذا لو توقّف ذلك على الحلف كاذباً جاز1.
وإن لم يكن وجوب .
أقول : حيث إنّ في القضاء بمعنى فصل الخصومة ورفع التّنازع أموراً ثلاثة مترتّبة : تحصيل الولاية الموجبة لجعل منصب القضاوة له بمقتضى المقبولة والصحيحة ، وسماع الدّعوى ، والنظر في أدلّة الطرفين من البيّنة واليمين وغيرهما ، وفصل الخصومة ورفع التنازع لابدّ في الحكم بالتغاير بين المتعلّقين من جعل أحدهما متعلّقاً للوجوب ، والآخر متعلّقاً للاستحباب ، وإن كان في بعضها نظر .
1 ـ في هذه المسألة جهات من البحث :
الاُولى : حرمة الترافع إلى قضاة الجور ، وقد فسّرهم بمن لم تجتمع فيهم شرائط القضاء ، مع أنّ إطلاق قاضي الجور على كلّ من لا تجتمع فيهم الشرائط ممنوع جدّاً ، فإنّ المجتهد الشيعي غير الواجد لشرطيّة العدالة هل يكون قاضي الجور ، ولو علم عدم عدالته ، وحتى فيما رأى نفسه كذلك مع أنّ استعمال ضمير الجمع عقيب كلمة «من» لا يكون متداولا وإن فرضت صحّته .
وكيف كان فالدليل على الحرمة إنّما هو بالإضافة إلى قضاة الجور; لأنّه مصداق قوله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ}(1) . وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فلا دليل على الحرمة إلاّ من طريق عدم القول بالفصل أو