(الصفحة 257)
ملكاً لك»؟ ظاهر في أنّ صيرورته ملكاً له إنّما هو لأجل كونه تحت استيلاء البائع ، ويده الكاشفة عن ملكه ثمّ انتقاله إليه بالبيع ، ولو لم تكن اليد أمارة على ثبوتها لما جاز الحلف على الملكية المترتّبة على الشراء بعد عدم ثبوتها للبائع ـ أنّ التعليل في الذيل لا يدلّ على الأصلية ; لاحتمال أن يكون ذلك حكمة لعدم ردع الشارع عن اعتبارها لا لأصل اعتبارها .
وبعبارة اُخرى حيث إنّ الامارات العقلائية المعتبرة عند العقلاء يحتاج اعتبارها إلى عدم ردع الشارع عنها ، وإلاّ فلا أثر لها بنظر الشارع ـ كقول الثقة الواحد في الموضوعات الخارجية حسب المختار من عدم حجّيته فيها ـ ومن المعلوم أنّ الردع وعدمه لا يكون إلاّ لأجل وجود المصلحة وعدمها; ضرورة أنّه لا يكون جزافيّاً ومن غير جهة ، فلابدّ أن يكون عدم ردع الشارع مسبّباً عن أمر ، وقد بيّن في الرواية ذلك الأمر وهو: اختلال سوق المسلمين بدونه .
ورواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة(1) .
وهذه الرواية ـ التي وصفها الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في رسائله بكونها موثّقة(2) ـ هي العمدة في التوهّم المذكور ، ووجه استفادة اعتبار اليد عند الشارع
- (1) الكافي: 5 / 313 ح40 ، التهذيب: 7 / 226 ح989 ، الوسائل: 17/ 89 ، أبواب ما يكتسب به ب4 ح4 .
- (2) فرائد الاُصول: 2 / 734 .
(الصفحة 258)
بعنوان الأصل لا الأمارة قوله (عليه السلام): «كلّ شيء لك حلال . . .» فإنّه ظاهر في أنّ الحكم بالحلّية مترتّب على الشيء الذي شك في حلّيته وحرمته ، كما يدلّ عليه الغاية; ولذا استدلّ به لأصالة الحلية في مورد الشك فيها وفي الحرمة ، فموضوع الحكم الشيء المشكوك بوصف كونه مشكوكاً ، ومن المعلوم أنّ هذا شأن الأحكام الظاهرية والأصول العملية ; لأنّها قواعد مجعولة للشاك بما هو شاك يحتمل كلا الطرفين .
وأمّا الأمارة فمرجع اعتبارها إلى إلغاء احتمال الخلاف وجعله كالعدم ، وحينئذ نقول: إنّه بعد بيان هذه القاعدة الكلّية المعبّر عنها بأصالة الحلية قد بيّن في الرواية بعض مصاديقها كالثوب المشترى الذي يحتمل أن يكون سرقة ، والعبد المبتاع الذي يحتمل أن يكون خُدع فبيع ، ومن الواضح أنّ انطباق تلك القاعدة على هذا القبيل من الأمثلة لا يكاد يتم إلاّ مع اعتبار اليد بعنوان الأصل لا الأمارة ، كما لايخفى .
ويرد عليه أنّه لابدّ أن تحمل الأمثلة المذكورة في الرواية على أنّها إنّما أتى بها بعنوان التنظير والتمثيل ، لا بعنوان بيان بعض المصاديق ، وإلاّ فلو كانت تلك الأمثلة من مصاديق أصالة الحلية التي يدلّ عليها الصدر كما عرفت ; لأمكن المناقشة في الكلّ بعدم كون شيء منها مجرى أصالة الحلية ، لوجود أصل حاكم عليها موافق أو مخالف ، كاستصحاب عدم تحقّق الملكية بالنسبة إلى الثوب والمملوك في المثالين المتقدّمين ، لأصالة الفساد في المعاملة في الشبهة الموضوعية ، واستصحاب عدم تحقّق الرضاع في الزوجة ، التي يحتمل أن تكون محرماً لأجل الرضاع واستصحاب عدم تحقق الاختية بناءً على مبنى المحقّق الخراساني من
(الصفحة 259)
جريان استصحاب عدم القرشية وعدم تحقّق الزوجية ، بناءً على ما هو الحقّ من عدم جريان الاستصحاب المزبور ، وهكذا .
وبالجملة لا محيص عن الالتزام بعدم كون المورد من موارد التطبيق ، بل في مقام التنظير والتمثيل ، وإن كان الالتزام بذلك في نفسه مشكلا .
ثمّ إنّ في الرواية دلالة على أمر آخر ـ وإن كان غير مربوط بالمقام ـ وهي الدلالة على ثبوت اصطلاح خاصّ للشارع في عنوان البيّنة ، لعطفها على الاستبانة الدالّ على المغايرة ، فتدبّر جيّداً .
وقد تحصّل من جميع الطوائف من الروايات الواردة في اليد: أنّه لابدّ من الأخذ بمقتضى الطائفة الاُولى الظاهرة في الاعتبار والحجية بنحو الكاشفية والأمارية ، لأنّه لا معارض لتلك الطائفة ; لعدم كون الطائفة الثانية دالّة على الأمارية والأصلية فلاتنافي الطائفة الاُولى ، وعدم دلالة الطائفة الثالثة على الأصلية كما عرفت ، فاللازم الأخذ بالطائفة الاُولى المتعرّضة لجهتين: الحجية وكونها أمارة ، كما هو الأمر كذلك عند العقلاء على ما تقدّم .
ويؤيّد أمارية اليد أنّها لو كانت أصلا شرعياً معتبراً لم يكن وجه لتقدّمها على الاستصحاب المخالف الجاري في أكثر مواردها; لأنّ كليهما حينئذ من الاُصول التنزيلية ، كما عرفت من المحقّق البجنوردي (قدس سره)(1) ، ولو كانت أمارة معتبرة ، لا مجال للمناقشة في تقدّمها على الاستصحاب; لأنّ الأمارة حاكمة على الأصل الموافق أو المخالف ، كما قرّر في محلّه .
(الصفحة 260)
الأمر الثالث: في مقدار حجّية القاعدة وموارد جريانها ، فإنّه قد وقع الاختلاف في جملة من الموارد ، وهي كثيرة:
منها: المنافع ، فإنّه قد وقع الإشكال في جريان قاعدة اليد فيها ، ولكنّ الظاهر هو الجريان; لإطلاق قوله (عليه السلام) في موثقة يونس المتقدّمة: «مَن استولى على شيء منه فهو له»(1) فإنّ الضمير في منه وإن كان يرجع إلى المتاع المردّد بين الزوج والزوجة ، إلاّ أنّ المستفاد منه أنّ الموجب للحكم بالملكية هو الاستيلاء الكاشف عنها ، فالضابطة الكلية تجري بالإضافة إلى جميع الأشياء . ومن الواضح أنّ المنافع من جملة الأشياء ، فإذا استولى على سكونة دار يكشف ذلك عن كونه مالكاً لمنفعة الدار ، امّا مع ملك العين أو بدونه .
هذا ، مضافاً إلى ظاهر الرواية المتقدّمة الواردة في الرحى ، الذي كانت لرجل على نهر قرية والقرية لرجل ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر(2) المستلزم ذلك لتعطيل الرحى; لتقوّمها بماء هذا النهر ، حيث إنّه حكم (عليه السلام)بوجوب اتقاء الله والعمل بالمعروف وعدم إضرار أخيه المؤمن ، فالمنافع إنّما تكون كالأعيان من هذه الجهة .
هذا ، وقد صرّح المحقّق النراقي (قدس سره) في العوائد بعدم الشمول للمنافع ، بل مقتضى ذيل كلامه عدم تحقّق اليد والاستيلاء موضوعاً بالنسبة إلى المنافع ، فإنّه بعد الاستدلال لعدم الشمول بالأصل ، وعدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان ، واختصاص الأخبار بها على اختلافها من حيث ظهورها في خصوص الأعيان أو
- (1) الوسائل: 26 / 216، أبواب ميراث الأزواج ب8 ح3.
- (2) الوسائل: 25 / 431، كتاب إحياء الموات ب15 ح1
(الصفحة 261)
إجمالها ، أو عدم دلالتها على ما هو المطلوب من الأمارية ، وبعد دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان ; لأنّها المتبادر عرفاً من لفظ اليد والاستيلاء ، قال: بل هنا كلام آخر وهو: أنّ اليد والاستيلاء إنّما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارّة . وأمّا الاُمور التدريجية الوجود غير القارة كالمنافع ، فلو سلّم صدق اليد والاستيلاء عليها فإنّما هو فيما تحقّق ومضى ، لا في المنافع المستقبلة التي هي المراد هنا(1) .
وأجبنا عنه في «القواعد الفقهية» بما يرجع تارةً إلى النقض بأصل الملكية; فإنّه لو لم تكن المنفعة التي وجودها تدريجي قابلة لأن يتعلّق بها الاستيلاء ، وتقع مورداً للسلطة واليد باعتبار كون وجودها غير قار ، لم تكن قابلة لأن تقع مملوكة أيضاً; لعدم الفرق بين الملكية والاستيلاء من هذه الجهة أصلا ، مع أنّ تعلّق الملك بها مضافاً إلى بداهته لا يلتزم القائل باستحالته كما هو ظاهر . ونزيد هنا أنّ لازم ذلك عدم إمكان تحقّق غصب المنافع الخالي عن غصب الأعيان; لما عرفت من أنّ حقيقة الغصب هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً ، مع أنّ تعلّق الغصب بخصوص المنافع ممكن .
واُخرى إلى الحلّ، وهو: أنّ المراد بالاستيلاء المساوق لليد ليس هو الاستيلاء الحقيقي حتى يمنع تعلّقه بالأمر غير الموجود ، بل الاستيلاء الاعتباري الذي يعتبره العقلاء في موارده ويستتبعه الإختصاص ، وهذا لا مانع من أن يتعلّق بالأمر الذي لا يكون موجوداً بالفعل ، كما أنّ الملكية المتعلّقة به أمر اعتباري ، ونسبة معتبرة عند العقلاء بين المالك والمملوك ، فالظاهر إمكان تحقّق الاستيلاء واليد بالإضافة
- (1) عوائد الأيّام : 745 ، الموضع السادس .