(الصفحة 261)
إجمالها ، أو عدم دلالتها على ما هو المطلوب من الأمارية ، وبعد دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان ; لأنّها المتبادر عرفاً من لفظ اليد والاستيلاء ، قال: بل هنا كلام آخر وهو: أنّ اليد والاستيلاء إنّما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارّة . وأمّا الاُمور التدريجية الوجود غير القارة كالمنافع ، فلو سلّم صدق اليد والاستيلاء عليها فإنّما هو فيما تحقّق ومضى ، لا في المنافع المستقبلة التي هي المراد هنا(1) .
وأجبنا عنه في «القواعد الفقهية» بما يرجع تارةً إلى النقض بأصل الملكية; فإنّه لو لم تكن المنفعة التي وجودها تدريجي قابلة لأن يتعلّق بها الاستيلاء ، وتقع مورداً للسلطة واليد باعتبار كون وجودها غير قار ، لم تكن قابلة لأن تقع مملوكة أيضاً; لعدم الفرق بين الملكية والاستيلاء من هذه الجهة أصلا ، مع أنّ تعلّق الملك بها مضافاً إلى بداهته لا يلتزم القائل باستحالته كما هو ظاهر . ونزيد هنا أنّ لازم ذلك عدم إمكان تحقّق غصب المنافع الخالي عن غصب الأعيان; لما عرفت من أنّ حقيقة الغصب هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً ، مع أنّ تعلّق الغصب بخصوص المنافع ممكن .
واُخرى إلى الحلّ، وهو: أنّ المراد بالاستيلاء المساوق لليد ليس هو الاستيلاء الحقيقي حتى يمنع تعلّقه بالأمر غير الموجود ، بل الاستيلاء الاعتباري الذي يعتبره العقلاء في موارده ويستتبعه الإختصاص ، وهذا لا مانع من أن يتعلّق بالأمر الذي لا يكون موجوداً بالفعل ، كما أنّ الملكية المتعلّقة به أمر اعتباري ، ونسبة معتبرة عند العقلاء بين المالك والمملوك ، فالظاهر إمكان تحقّق الاستيلاء واليد بالإضافة
- (1) عوائد الأيّام : 745 ، الموضع السادس .
(الصفحة 262)
إلى المنافع، كما في الملكيّة . . .
وامّا ما قيل: من أنّ المراد باليد هي السيطرة والاستيلاء الخارجي ، سواء كان هناك معتبر في العالم أم لا; إذ اليد بالمعنى المذكور من الاُمور التكوينية الخارجية ، وليست من الاُمور الاعتبارية ، ولذلك تتحقّق اليد من الغاصب ، مع أنّه لا اعتبار لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء ، والقول بأنّه باعتبار نفسه شطط من الكلام يدفعه أنّ الاعتبار المفقود في الغاصب هو اعتبار الملكية لا اعتبار كونه في يده وهو مستول عليه ، كيف وقد حكم الشارع بضمانه بقوله (صلى الله عليه وآله): «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1) فإنّه مع عدم اعتبار كونه مأخوذاً لليد وهي أخذته لا معنى للحكم بضمانه ، والإنصاف ـ كما عرفت في الأمر الأوّل ـ أنّها ليست من الاُمور التكوينية المتحقّقة مع قطع النظر عن الاعتبار ، بل أمر متحقّق به، كما تقدّم نظير الفوقية والتحتية .
نعم يبقى الإشكال في أنّ الاستيلاء المتعلّق بالمنافع هل هو استيلاء مستقلّ في قبال الاستيلاء المتعلّق بالأعيان ، بحيث يكون لمالك العين والمنفعة استيلاءآن يكشف كلّ منهما في عرض واحد عن ملكيّة المستولي بالنسبة إلى المستولى عليه ، الذي هو العين في أحدهما والمنفعة في الآخر، أو أنّ يد صاحب المنافع عليها تبعية في طول الاستيلاء المتعلق بالأعيان ، أو أنّه لا يكون هنا إلاّ استيلاء واحد متعلق بالأعيان ، غاية الأمر أنّه يكشف عن ملكية العين والمنفعة جميعاً ، أو أنّه لا يكشف إلاّ عن ملكية العين ، غاية الأمر أنّ ملكية العين تكشف عن ملكية المنافع ، فهي
- (1) سنن الترمذي: 3 / 566 ح1269، سنن ابن ماجة: 3 / 147 ح2400، سنن أبي داود: 3 /526 ح3561، مستدرك الوسائل: 17 / 88 ، كتاب الغصب ب1 ح4 .
(الصفحة 263)
مكشوفة لا بأصل الاستيلاء المتعلّق بالعين ، بل بالملكية المتعلّقة بالعين المنكشفة بسبب الاستيلاء المتعلّق بها؟ وجوه واحتمالات متصوّرة بحسب التصور الابتدائي والنظر البدوي .
ولكنّ الظاهر هو الاحتمال الثاني; لابتناء الأخيرين على عدم تعلّق الاستيلاء بالمنافع ، وقد عرفت وقوعه فضلا عن إمكانه ، وأمّا الاحتمال الأوّل فهو أيضاً خلاف ما هو المعتبر عند العقلاء ، فإنّهم لا يعتبرون الاستيلاء بالنسبة إلى المنافع إلاّ تبعاً للاستيلاء المتعلق بالأعيان(1) .
هذا، ويمكن دعوى استقلال الاستيلائين فيما إذا كان للعين مالك وللمنفعة مالك آخر ، كالعين المستأجرة ، فإذا كانت العين الكذائية تحت استيلاء زيد مثلا ومنفعتها تحت يد عمرو ، كذلك يكون هناك استيلاءآن ، ويكشف كلّ استيلاء عن ملكية صاحبه ، بخلاف ما إذا كان هناك مالك واحد ، فإنّه ليس هناك إلاّ استيلاء واحد والآخر تبع .
هذا، وقد فصل المحقّق البجنوردي في كتابه القواعد الفقهية المشتمل على سبعة مجلّدات في المنافع بما يرجع إلى أنّه تارة يكون المدّعي هو المالك باعتراف ذي اليد ، بأن يقول مثلا: يازيد المدّعي هذه الدار التي في يدي ملكك ، ولكنّها في إجارتي إلى سنة مثلا ، واُخرى يكون المدّعي أجنبيّاً أي ليس بمالك ، مثل أن يدّعي شخص آخر ويقول: في إجارتي لا إجارتك ، ففي الثاني تكون اليد حجّة في مقابل الأجنبي دون الأوّل أي في مقابل المالك ، نظراً إلى أنّ المدّعي لو كان هو المالك فحيث إنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أمانية ومن قبل المالك ففي الحقيقة يده يد المالك ،
- (1) القواعد الفقهيّة: 1 / 372 ـ 374 .
(الصفحة 264)
فلا مجال للمخاصمة مع المالك; لأنّه أسقطها عن الاعتبار بالنسبة إليه باعترافه أنّ يده أمانية ، وأمّا بالإضافة إلى الأجنبي فلا ، من جهة أنّ اليد موجودة على الفرض ، ولم يصدر من ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريتها بالنسبة إلى الأجنبي .
نعم تبقى المطالبة بدليل على اعتبار هذه اليد التبعية ، ثمّ اختار أنّه لو كان المدرك هو الأخبار أو الإجماع فإثبات الاعتبار مشكل في الأوّل ومعلوم العدم في الثاني ، ولو كان المدرك هو بناء العقلاء يتعيّن التفصيل المذكور(1) .
أقول: الظاهر ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ أنّ يد المستأجر إنّما هي يد المؤجر ، كما أنّه قد مرّ(2) أنّ اليد على المنافع والاستيلاء عليها إنّما هي بتبع اليد على العين وفي طولها ، لكنّ المراد بالأوّل هو ما إذا كانت اليد ملحوظة بالنسبة إلى أصل ملكية العين ، بمعنى أنّ يد المستأجر كاشفة عن ملكية المؤجر للعين المستأجرة ، كما أنّ يد المؤجر كاشفة عنها ، وأمّا بالنسبة إلى المنفعة التي هي ملك للمستأجر بسبب الإجارة ، فلا مجال لتوهّم كون يده يده كما هو ظاهر ، كما أنّ المراد بالثاني ما إذا كانت العين تحت يد المالك ، فإنّه حينئذ يكون الاستيلاء على المنافع بتبع الاستيلاء على العين وفي طولها .
وأمّا إذا كانت العين تحت يد المستأجر فلا تكون هذه التبعية بل تصير مثل أصل الملكيّة ، فإنّ تبعيّة ملكية المنافع لملكيّة العين إنّما هي في مورد مالك العين ، وأمّا بالنسبة إلى المستأجر فالملكيّة متحقّقة من دون أن يكون هناك تبعية أصلا ، وعلى ما ذكرنا لا يبقى مجال للتفصيل المذكور ، فإنّ اليد كاشفة عن ملكية المنافع سواء
- (1) القواعد الفقهيّة للبجنوردي: 1 / 123 ـ 124.
- (2) تقدّم في ص260 .
(الصفحة 265)
كانت المخاصمة مع المالك أو الأجنبي .
وأمّا الإشكال في شمول الأخبار لليد على المنافع فقد عرفت الجواب عنه ، وأنّ بعض الروايات واردة في خصوص المنفعة ، فلا فرق بين أن يكون المدرك الأخبار أو بناء العقلاء . نعم قد عرفت المناقشة في أصل اعتبار الإجماع في القاعدة ، بأنّه لا أصالة له ولا يكشف عن موافقة المعصوم (عليه السلام) .
ومن جملة موارد الخلاف ما أفاده الماتن (قدس سره) بقوله: بل الظاهر الحكم بملكية ما في يده ولو لم يعلم أنّه له الخ .
والوجه في الاستظهار المزبور إطلاق قوله (عليه السلام) في موثقة يونس المتقدّمة: «ومن استولى على شيء منه فهو له»، ولكنّه ربما يناقش في الاستدلال بها بأنّ الظاهر من هذه الرواية أنّه (عليه السلام) حكم في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة، بأنّ كلّ واحد منهما إذا كان مستولياً على شيء من متاع البيت فهو له ، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم التنازع وعدم وجود مدّع في البين .
ويدفع هذه المناقشة ـ مضافاً إلى أنّ المفروض في الرواية موت أحد الزوجين ، فلا معنى للمخاصمة بينهما ـ أنّه على تقدير التصحيح بأنّ المراد ورثة الميت لأحد الزوجين الحيّ ، لم يفرض في الرواية التخاصم والتنازع بوجه ، بل قد عرفت(1) أنّ ذيل الرواية يدل على قاعدة كلية وضابطة عامة، سواء كان مشتملا على كلمة «منه» أم لا ، وهي تشمل صاحب اليد أيضاً إذا لم يكن عالماً بالخلاف ، كما لايخفى .
نعم ربما يستدلّ على الخلاف بصحيحة جميل بن صالح المتقدّمة(2) ; لأنّه (عليه السلام)
- (1) في ص251 .
- (2) تقدّمت في ص253 ـ 254.