(الصفحة 312)
وحقوق الناس ، لا مطلق الأمر المشتبه ولو كان حكماً من الأحكام الإلهية مثلا(1) .
ثمّ إنّ صاحب الوسائل (قدس سره) حكى عن الشيخ بعد نقل الروايات المتقدمة أنّه قال: الذي اعتمده في الجمع بين هذه الأخبار هو أنّ البيّنتين إذا تقابلتا فلا تخلو أن تكون مع إحداهما يد متصرّفة أو لم تكن ، فإن لم تكن يد متصرّفة وكانتا خارجتين فينبغي أن يحكم لأعدلهما شهوداً ويبطل الآخر ، فإن تساويا في العدالة حلف أكثرهما شهوداً وهو الذي تضمنه خبر أبي بصير .
وما رواه السكوني من القسمة على عدد الشهود ، فإنّما هو على وجه المصالحة والوساطة بينهما دون مرّ الحكم ، وإن تساوى عدد الشهود أقرع بينهم ، فمن خرج اسمه حلف بأنّ الحقّ حقّه ، وإن كان مع إحدى البيّنتين يد متصرّفة ، فإن كانت البيّنة إنّما تشهد له بالملك فقط دون سببه انتزع من يده واُعطى اليد الخارجة ، وإن كانت بيّنته بسبب الملك إمّا بشرائه وإمّا نتاج الدابّة إن كانت دابّة أو غير ذلك ، وكانت البيّنة الاُخرى مثلها ، كانت البينة التي مع اليد المتصرّفة أولى .
فأمّا خبر إسحاق بن عمّار أنّ من حلف كان الحقّ له ، وإن حلفا كان الحقّ بينهما نصفين ، فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك ، لأنّا بيّنا الترجيح بكثرة الشهود أو القرعة ، ويمكن أن يكون الإمام مخيّراً بين الإحلاف والقرعة ، وهذه الطريقة تأتي على جميع الاخبار من غير إطراح شيء منها وتسلم بأجمعها ، وأنت إذا فكّرت فيها رأيتها على ما ذكرت لك إن شاء الله تعالى(2) .
إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في صور:
- (1) القواعد الفقهيّة: 1 / 421 ـ 422 .
- (2) التهذيب: 6 / 237 ـ 238 ، الإستبصار: 3 / 42 ـ 43 ، الوسائل: 27/ 256 ، أبواب كيفيّة الحكم آخر ب12 .
(الصفحة 313)
الصورة الاُولى: ما إذا كان الشيء في يد أحدهما فقط ، وأقام كلّ منهما البيّنة على ملكيته . وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة تقدّم بيّنة الخارج(1)، وهو المدّعي غير ذي اليد . ولكن الروايات الواردة في هذا المجال مختلفة ، فيستفاد من بعضها ذلك ، كخبر منصور والمرسل عن عليّ (عليه السلام) كما عرفت ، ومن البعض الآخر خلاف ذلك مثل رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة المشتمل ذيلها على قوله (عليه السلام): «قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده» ، فإنّ ظاهرها سقوط البيّنتين بالتعارض والرجوع إلى حلف المنكر الذي هي في يده . ومثل رواية غياث بن إبراهيم المتقدّمة أيضاً الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قضى بها للذي في يده ، وبعض الأخبار الاُخر. ولكنّك عرفت أنّه لا تعدّد في الروايات الواردة في قصّة الاختصام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لعدم تعدّد تلك القصّة بل الظاهر وحدتها .
وكيف كان ، فالمشهور شهرة عظيمة كما في الجواهر: تقديم الخارج إذا شهدتا لهما بالملك المطلق مع التساوي في العدد والعدالة وعدمه(2) ، بل عن الغنية(3)والسرائر(4) وظاهر المبسوط(5) الإجماع عليه ، وهذا المقدار يكفي في جبر سند الخبرين ـ وإن كانا في نفسهما ضعيفان ـ وترجيحهما على الروايات المعارضة; لأنّ
- (1) في ص302 ـ 303 .
- (2) جواهر الكلام: 40 / 416 ، رياض المسائل: 9 / 403 ـ 404 ، ونسبه فيه إلى جماعة كثيرة ، مثل الشيخ في الخلاف: 3 / 130 مسألة 217 .
- (3) غنية النزوع: 443 ـ 444 .
- (4) السرائر: 2 / 168 ـ 169 .
- (5) المبسوط: 8 / 258 .
(الصفحة 314)
الشهرة من حيث الفتوى هي أوّل المرجّحات في الأخبار المتعارضة على ما استفدناه من مقبولة عمر بن حنظلة ، كما حقّقناه في محلّه من الأصول ، ولعلّه لما ذكرنا نفى البعد في المتن عمّا أفاده في هذه الصورة من تقديم بيّنة الخارج ، وإن كان في مقابل المشهور أقوال مختلفة ـ أنهاها النراقي في المستند مع القول المشهور إلى تسعة أو أزيد(1) ـ من تقديم بيّنة الداخل مطلقاً كما عن الشيخ في كتاب الدعاوى من الخلاف(2) .
وعن جماعة ترجيح الخارج إلاّ مع انفراد بيّنة الداخل بذكر السبب(3) ، وعن المهذب نسبة خلافه إلى الندرة .
وذهب بعضهم إلى تقديم بيّنة الداخل مطلقا إلاّ مع انفراد الخارج بذكر السبب(4) .
وعن بعضهم تقديم الأكثر شهوداً مع تساويهما في العدالة مع اليمين(5) .
وعن ابن حمزة الفرق بين السبب المتكرّر كالشراء والاتهاب والصّباغة ، وغير المتكرّر كالنتاج والنساجة(6) .
- (1) مستند الشيعة: 2 / 587 ـ 589 .
- (2) الخلاف: 6 / 329 ـ 332 مسألة 2 .
- (3) كالشيخ في النهاية: 344 والتهذيبين والمبسوط: 8 / 294 ـ 295 وابن البرّاج في المهذّب: 2 / 578 والطبرسي في المؤتلف من المختلف: 563 مسألة 2 والعلاّمة في المختلف: 8 / 393 والمحقّق في شرائع الإسلام: 4 / 897 والشهيد الأوّل في غاية المراد: 310 (مخطوط) والشهيد الثاني في الروضة البهيّة: 3 / 108 ـ 109 .
- (4) قواعد الاحكام: 2 / 233 ، مسالك الافهام: 14 / 84 ـ 85 ، ملحقات العروة الوثقى: 3 / 155 .
- (5) المقنعة: 730 ـ 731 ، المقنع: 399 ـ 400 ، الفقيه: 3 / 39 ذ ح130 .
- (6) الوسيلة: 219 .
(الصفحة 315)
وعن جماعة تقديم بيّنة الخارج مطلقاً من غير رجوع إلى المرجحات ، ومن غير فرق بين ذكر السبب في البيّنتين أو في إحداهما أو عدم ذكره ، وعن الغنية الإجماع عليه(1) ، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من الانجبار فتدبّر .
فإنّ ظاهر الجواهر والمستند أنّ المشهور هو تقديم الخارج إذا شهدتا بالملك المطلق مع التساوي في العدد والعدالة وعدمه ، والظاهر أنّ المشهور هو التقديم مطلقا من دون فرق بين ما إذا شهدتا بالملك المطلق وعدمه ، ويؤيّده دعوى الغنية الإجماع على كلاهما . فالظاهر أنّ المشهور هو الأمر الأخير وهو التقديم مطلقاً ، وعليه فلا يبقى ارتياب في الانجبار ، كما لايخفى .
وخلاصة الكلام في هذه الصورة أنّه مع اقتضاء القاعدة ما ذكرنا من تقديم بيّنة الخارج ، لابدّ في رفع اليد عن مقتضى القاعدة من نهوض دليل قويّ عليه ، ومع عدمه ـ فضلا عن وجود بعض ما يطابق القاعدة الموافق للمشهور ـ لا وجه لرفع اليد عنه ، كما لايخفى .
الصورة الثانية: ما إذا كانت العين في يدهما معاً . مقتضى القاعدة فيها التنصيف بلحاظ الأمرين اللذين ذكرناهما سابقاً ، وهما أنّ ثبوت يد اثنين على تمام مال واحد مرجعه إلى ثبوت يد كلّ منهما على النصف المشاع ، فيكون كلّ منهما داخلا وخارجاً معاً ، وأيضاً مقتضى تقديم بيّنة الخارج أو بيّنة الداخل ، فبيّنة كلّ واحد منهما مسموعة بالإضافة إلى النصف الخارج ، وغير مسموعة بالنسبة إلى النصف الداخل ، فلا محالة يحكم بينهما بالتنصيف على طبق القاعدة، كما أفاده في المتن ، وفي
- (1) هذا هو الوجه الأوّل الذي ادّعى صاحب الجواهر الشهرة عليه .
(الصفحة 316)
الشرائع الحكم بها بينهما نصفين(1) ، وأضاف إليه في الجواهر قوله: من دون إقراع ولا ملاحظة ترجيح بأعدليّة أو أكثرية ، بلا خلاف أجده بين من تأخّر عن القديمين الحسن وأبي علي ، بل صرّح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجّحات الآتية في غير هذه الصورة(2) .(3)
وقد استدل المحقّق لما أفاده من التنصيف بما يرجع إلى ما ذكرنا من لزوم تقديم بيّنة الخارج على بيّنة الداخل بعد كون يد كلّ واحد منهما على النصف ، لكن في المسالك احتمال أحد أمرين آخرين في سبب التنصيف، حيث إنّه قال في محكيّه: لا إشكال في الحكم بها بينهما نصفين ، لكن اختلف في سببه ، فقيل: لتساقط البيّنتين بسبب التساوي ، وبقي الحكم كما لو لم تكن بيّنة . وقيل: لأنّ مع كلٍّ منهما مرجّحاً باليد على نصفها فقدّمت بيّنته على ما في يده ، وأضاف إليه قوله:
وتظهر الفائدة حينئذ في اليمين على من قضي له ، فعلى الأوّل ـ أي سقوط البيّنتين بسبب التعارض ـ يلزم كلاًّ منهما اليمين لصاحبه . وعلى الاخرين ـ القول بثبوت الترجيح باليد والقول بتقديم بيّنة الخارج ـ لا يمين لترجيح كلٍّ من البيّنتين باليد على أحدهما فتعمل بالراجح; ولأن البيّنة ناهضة بإثبات الحقّ على الثاني فلا يمين معها(4) .
ولكن حكي عن التحرير ، أنّه مع التصريح بكون السبب تقديم بيّنة الخارج ، قال: وهل يحلف كلّ واحد على النصف المحكوم له به ، أو يكون له من غير يمين .
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 897 .
- (2) رياض المسائل: 9 / 413 .
- (3) جواهر الكلام: 40 / 410 .
- (4) مسالك الأفهام: 14 / 81 .