(الصفحة 331)
وأمّا البحث من الجهة الثانية; فلأنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى حكمه لأجل شدّة اقتداره وقوّته على إجراء حكمه دون القاضي الأوّل ، أو لأجل أنّ المتخاصمين لهما أو لأحدهما مناقشة في الحكم الأوّل من جهة عدالة القاضي أو علمه مثلا، مع ثبوت كلاهما عند القاضي التنفيذي ، أو لأجل ضعف القاضي الأوّل وعدم بناء الثاني إلاّ على إجراء حكم نفسه ، أو لغير ذلك من الجهات .
وبالجملة: الافتقار إلى القاضي التنفيذي يتحقّق كثيراً .
الأوّل، الكتابة: بأن يكتب إلى حاكم آخر بحكمه ، وقد عرفت أنّ التعبير بكتاب قاض إلى قاض ، كما في الكلمات تبعاً للرواية إنّما يناسب هذا الأمر ، وفي المتن أنّه لا عبرة بها حتى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها ، والظاهر أنّ مستندها هو إطلاق الرواية المتقدّمة الحاكية لعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأنّه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، بعد وضوح أنّ المراد عدم الإجازة الوضعية لا التكليفية ، فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الإجازة ولو مع العلم بأنّها له وأراد مفادها ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الحاكي لعمل المولى كان هو الإمام (عليه السلام)، وكان في مقام بيان الحكم لا نقل القصّة ، غاية الأمر بهذه الكيفية ، ولو كان القيد دخيلا فيه كان عليه بيانه، كما لا يخفى.
هذا ، ولكنّ الظاهر انصراف الرواية عن هذه الصورة التي كانت الكتابة مقرونة بقرائن قطعية موجبة للعلم بذلك ، أو الاطمئنان الذي يعامل معه عند العرف والعقلاء معاملة العلم .
ثمّ إنّ المحقّق في الشرائع أورد على الرواية سنداً بأنّ طلحة بتري ـ وهم فرقة من الزيدية ـ والسكوني عامي(1) ، وأضاف إليه صاحب الجواهر أنّه لا جابر لهما في
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 885 .
(الصفحة 332)
خصوص المفروض ـ أي صورة ثبوت الحكم وإحرازه ـ بل الوهن محقّق ، وشهرة مضمونها في غير المفروض لا يقتضي جبرها فيه .
أقول: مضافاً إلى أنّه لا يعتبر في حجية خبر الواحد واعتباره إلاّ مجرّد الوثاقة وهي متحقّقة بالإضافة إلى سند السكوني وقد حكي عن الشيخ في العُدّة أنّه قال: ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث . . . والسكوني... عن أئمّتنا(عليهم السلام)، فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه(1) ، أنّ ثبوت استناد المشهور إليه كاف في الحجية ، وإن لم يكن إطلاق الرواية مورداً لقبولهم ، نعم قد عرفت انصراف الإطلاق إلى صورة الاشتباه وعدم الأمن من التزوير ، ولا يشمل صورة الأمن بوجه ، مضافاً إلى ما أفاده المحقّق في الشرائع ، حيث قال: ومع تسليمها نقول بموجبها ، فإنّا لا نعمل بالكتاب أصلا ولو شهد به فكأنّ الكتاب ملغى .
والظاهر أنّ قوله: «ولو شهد به» أنّ قيام البيّنة على كونه كتاب القاضي لا يكفي ، خلافاً لبني أميّة حيث انّهم لمّا ولّوا أجازوا بالبيّنات . والظاهر أنّ المراد البيّنات على ثبوت الكتابة ، لا البيّنات على الحكم الموافقة لما في الكتاب ، فإنّه لم يحك عن علي (عليه السلام)منعه ، فلا تتحقّق الموافقة بين الصدر والذيل كما لا يخفى .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا الخلل فيما أفاده في المتن من أنّه لا عبرة بها; أي بالكتابة حتى مع العلم بأنّها له وأراد مفادها .
الثاني ، القول مشافهة: وقد فصّل فيه في المتن بين ما إذا كان شهادة على إنشائه السابق ، فلا يجدي إلاّ ما إذا كان مع شهادة عادل آخر لتتحقّق البيّنة على ذلك . وأولى من ذلك ما إذا قال: ثبت عندي كذا ، وبين ما إذا كان الإنشاء بحضور الثاني ،
- (1) العُدّة في أصول الفقه: 1 / 149 ـ 150 .
(الصفحة 333)
إن كان الثاني حاضراً في مجلس الإنشاء الصّادر من الأوّل ، وأفاد أنّه خارج عن محطّ البحث لكن يجب إنفاذه . ويظهر من المحقّق في الشرائع التردّد في القبول حيث قال فيها: وأمّا القول مشافهة فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت ، ففي القضاء به تردّد . نصّ الشيخ في الخلاف(1) أنّه لا يقبل(2) .
ومن الواضح أنّ قول: حكمت أو أنفذت أو مثلهما إنّما هو إخبار عمّا وقع له من الإنشاء السابق لا الإنشاء ، كما أنّ التعبير بقوله: ففي القضاء به . . . إشارة إلى ما ذكرنا في القضاء التنفيذي من كونه حكماً ثانياً ، غاية الأمر كونه كذلك لا مجرّد تنفيذ حكم الحاكم الأوّل .
والظاهر أنّ منشأ الترديد أنّ خبر العادل الواحد في الموضوعات التي منها حكم نفسه لا يكون حجّة كما حقّقناه في محلّه ، وعليه فيحتاج إلى شهادة عادل آخر حتى تقوم البيّنة على ذلك ، وأنّ الإنشاء أمر لا يكاد يعلم إلاّ من قبله ، خصوصاً مع أنّ الظاهر أنّه لا يعتبر فيه أن يكون بحضور المتخاصمين وفي معرض استماعهما ، وإن كان مشروطاً بالتماس المحكوم له .
وحينئذ يكفي فيه الإخبار عن إنشاء الحكم إذا لم يكن بحضورهما ، فإذا كان إخباره كافياً لهما مع كونه عادلا وإن كان واحداً ، فالظاهر كفايته بالإضافة إلى الحاكم الآخر ، وخبر العادل الواحد وإن لم يكن حجّة في الموضوعات بنحو الكلية إلاّ أنّه حجة في بعض الموارد ، بل وإن لم يكن عادلا ، كإخبار البائع بوزن المبيع الموزون أو كيل المبيع المكيل ، وإخبار ذي اليد بنجاسة ما في يده ونظائرهما . وقد
- (1) الخلاف: 6 / 245 مسألة 42 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
(الصفحة 334)مسألة 3: الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبي عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة; لأنّ قطع الخصومة حصل بحكم الأوّل ، وإنّما أنفذه وأمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة والاُمراء ، ولا أثر له بحسب الواقعة ، فإنّ إنفاذه وعدم
حكم صاحب الجواهر (قدس سره) ـ بعد حكاية تردّد المحقّق ـ بأنّ أقربه القبول(1) كما ستعرف ، ولكني لم أتحقّق وجهه في كلامه ، والظاهر أنّ وجهه ما ذكرنا .
الثالث ، شهادة البيّنة على حكم الحاكم الأوّل : وقد عرفت أنّ المراد بقوله: «فأجازوا بالبيّنات» في رواية السكوني هي البيّنة على الكتابة لا البيّنة في أصل الواقعة في مقابل اليمين ، التي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّهما: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2) . ومن الواضح عدم كون الولي مخالفاً للنبيّ صلّى الله عليهما وآلهما . وستعرف في بعض المسائل الآتية أنّ حجّية البيّنة على إنشاء القاضي لا يعتبر فيها حضور مجلس الإنشاء ولا إشهاد القاضي إيّاها ، بل هي حجّة مطلقا سواء كانا حاضرين مجلس الإنشاء أم لا ، وسواء أشهدهما القاضي أم لا . وسيأتي أيضاً في بعض المسائل الآتية إن شاء الله تعالى الفرق بين حقوق الناس وحقوق الله فانتظر .
وهكذا في وجوب الإنفاذ بالمعنى الذي ذكرناه; ما لو علم القاضي الثاني بحكم القاضي الأوّل بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين . والمراد صورة إفادة إقرارهما العلم بذلك ، وإلاّ فربّما لا يكون الإقرار الكذائي مفيداً للعلم ، كما إذا لم يكن المتخاصمان مدّعياً ومنكراً ، بل متداعيين واحتمل التباني بينهما، كما لا يخفى .
- (1) جواهر الكلام: 40 / 306 .
- (2) وسائل الشيعة: 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
(الصفحة 335)إنفاذه بعد تمامية موازين القضاء في الأوّل سواء ، وليس له الحكم في الواقعة; لعدم علمه وعدم تحقّق موازين القضاء عنده1.
1 ـ قد عرفت في ذيل المسألة الثانية المتقدّمة أنّ القضاء التنفيذي نوع من القضاء وقسم منه ، وقد عرفت أنّ المحقّق في الشرائع عبّر بالقضاء به أي بالقول مشافهة ، كما أنّك عرفت وجه الاحتياج والافتقار إليه ، وموضوعه القضاء الأوّل بعد تماميّة موازين القضاء عند القاضي الأوّل الحاكم في نفس الواقعة بخصوصياتها، وعليه فالتعبير بمغايرة الإنفاذ عن حكم الحاكم الثاني لا يكون في محلّه ، وعدم كونه حكماً لأجل عدم العلم بالواقعة ، وعدم تحقق موازين القضاء عند الحاكم الثاني لا يلائم إلاّ مع عدم كونه حكماً في الواقعة مستقيماً ، وأمّا عدم كونه حكماً وانشاءً مطابقاً لإنشاء الأوّل فلا ، وعليه فالمغايرة إنّما هي باعتبار كونه حكماً في الواقعة لا باعتبار أصل الحكم وإنشائه .
وبالجملة: فالدقّة في العبارة تعطي أنّ الماتن (قدس سره) إنّما هو في مقام بيان أنّ الحكم الثاني لا يكون حكماً في الواقعة بحيث يترتّب عليه فصل الخصومة ، وأمّا أصل كونه حكماً إنشائياً فلا يكون المتن بصدد نفيه ، وإن كان ربّما يوهمه في بادئ النظر، كما لايخفى .
والانصاف أنّ القولَ بعدم كونه حكماً ناشئٌ عن عدم الدقّة والتدبّر في كلمات القوم وعباراتهم ، وعن تخيّل كون فصل الخصومة ورفع التنازع قد حصل بحكم الأوّل ، فلا مجال لحكم الثاني ، فلابدّ أن يكون حكمه إنفاذاً لحكم الأوّل غفلة عن أنّه نوع من القضاء لا يعتبر فيه العلم بالواقعة ، وتحقّق موازين القضاء عنده بل موضوعه حكم الأوّل مع الخصوصيّات المتحقّقة .
وقد عرفت أنّ الحصر في قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» حصر