(الصفحة 339)
يكون إخباره أيضاً ماضياً; لأنّ مستند حجّية الإنشاء كونه حجّة وكون الرادّ عليه كالراد عليهم(عليهم السلام) ، وانطباق هذا العنوان عليه يوجب كونه مصدّقاً لحقّ الغير ، وإن لم يقبل الإقرار عليه خصوصاً مع أنّ إنشاء القضاء فيما هو المفروض شيء لا يعلم إلاّ من قبله ، ومن أنّ إخبار عادل واحد لا يكفي في الموضوعات الخارجية ، ولا يقبل إلاّ بضمّ عادل آخر . فإخبار القاضي بإنشائه السابق من هذا القبيل ، ولا ملازمة بين حجّية إنشائه وحجّية إخباره وإن كان المخبرُ به إنشاءَه .
ومنه يظهر أنّ دعوى أولوية الفرض ممّا قام على إنشائه شاهدان عادلان ممنوعة; لأنّ إخباره بإنشائه في السابق إخبار عادل واحد بخلاف صورة قيام البيّنة عليه ، فالأولوية ممنوعة جدّاً . واستفادة حجّية إخباره بذلك من دليل حجّية إنشائه موجبة للالتزام بحجّية إخباره في سائر الموضوعات الخارجيّة ، مع انّا لا نقول به .
ويظهر من المحكي عن المسالك: أنّ وجه التردّد غير ذلك ، حيث قال: قد ظهر من الأدلّة المجوِّزة لقبول إنفاذ الحكم أنّ موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد البعيدة عن الحاكم الأوّل ، فذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة ، وهم الشهود على حكم الأوّل. فلو كان الحاكمان مجتمعين وأشهد أحدهما الآخر على حكمه لم يصحّ إنفاذه; لأنّ هذا ليس من محلّ الضرورة المسوّغة للإنفاذ المخالف للأصل(1) .
وأورد عليه في الجواهر: بأنّ ذلك ليس قولا لأحد من أصحابنا ، ولم نعرف أحداً حكاه غيره ، والضرورة المذكورة في الدليل إنّما هي حكمة أصل المشروعية
- (1) مسالك الأفهام: 14 / 17 .
(الصفحة 340)مسألة 7: لا فرق في جميع ما مرّ بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما ، وبين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعي البيّنة ، فالتحمل فيهما والشهادة وشرائط القبول واحد ، ولابدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعي والمدّعى عليه ممّا يخرجهما عن الإبهام ، وحفظ المدّعى به بخصوصياته المخرجة عن الإبهام ، وحفظ الشاهدين وخصوصياتهما كذلك
للإنفاذ لا أنّها علّته، على أنّها قد تتحقّق فيه لقطع الخصومة مع عدم التباعد(1) . . .
فالحقّ حينئذ ما اختاره في المتن من عدم القبول ، وأنّه أشبه بالأصول والقواعد كما لا يخفى .
بل ذكر في المتن أنّه لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة ، وأشهد الشاهدين على هذا الحكم الثاني ، فجواز الشهادة بالحكم بنحو الاطلاق مشكل بل ممنوع ، والشهادة بنحو التقييد غير مفيد ، وعليه فالإنشاء الثاني لغو لا يترتّب عليه أثر . فتدبّر جيّداً .
أمّا الممنوعيّة في صورة الإطلاق; فللانصراف إلى الحكم المنشأ أوّلا الفاصل للخصومة والرافع للتنازع ، ومع هذا الانصراف لا تجوز الشهادة على نحو الإطلاق .
وأمّا عدم كونه مفيداً في صورة التقييد بأن يشهد بأنّ الحكم المشهود به ليس هو الحكم الأوّل الفاصل للخصومة ، فلأنّ أدلّة الإنفاذ سيّما الإجماع مقصورة على إنفاذ الحكم المنشأ أوّلا ، الصادر على طبق موازين القضاء ، ولا يشمل الحكم الثاني من الحاكم الأوّل مع عدم إحراز الحكم الأوّل .
- (1) جواهر الكلام: 40 / 316 .
(الصفحة 341)فيما يحتاج إليه ، كالحكم على الغائب وأنّه على حجّته1.
1 ـ لا فرق فيما مرّ من القضاء التنفيذي بين أن يكون حكم الحاكم الأوّل بين المتخاصمين مع حضورهما، وبين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعي البيّنة، وقد مرّ البحث في جواز الحكم على الغائب(1) ، وحينئذ فتجوز شهادة البيّنة على صدور الحكم على الغائب عند الحاكم الثاني ، غاية الأمر أنّه لابدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعي والمدّعى عليه والمدّعى به بما يخرج كلّ واحد من هذه الاُمور عن الإبهام والإجمال .
وظاهر العبارة ـ خصوصاً بملاحظة اللابدية الآتية فيها ـ أنّ هذه اللابدية إنّما هي في خصوص صورة الحكم على الغائب، مع أنّ الظاهر تحقّقها في كلتا الصورتين، فانّه في صورة حضور المتخاصمين لابدّ من حفظ خصوصياتهما وخصوصيّات المدّعى به في الحكم التنفيذي .
نعم لا يعتبر في غير الحكم على الغائب حفظ الشاهدين وخصوصياتهما، بل تكفي الشهادة على حكم الأوّل وإن لم يُعرف الشاهدان أصلا . وأمّا في الحكم على الغائب فيعتبر ذلك نظراً إلى أنّ الغائب على حجّته ، ويمكن له قدح الشاهدين أو أحدهما ، كما قد تقدّم في الحكم على الغائب .
ثمّ إنه قد ظهر ممّا ذكر في هذا الفصل أنّ جعل عنوانه «كتابة قاض إلى قاض» لا ينبغي ، وان جعل عنوانه «القضاء التنفيذي» لكان أولى ، والسرّ فيه أنّه جعل القضاء بالكتابة غير مشروع ، وكتابة قاض إلى قاض غير مؤثِّرة ، ولو في صورة العلم بأنّه الكاتب وأنّه أراد المفاد ، فتدبّر جيّداً .
- (1) تقدّم في «القول في شروط سماع الدعوى» مسألة 5 و 6 .
(الصفحة 342)مسألة 8: لو اشتبه الأمر على الحاكم الثاني; لعدم ضبط الشهود له ما يرفع به الإبهام أوقف الحكم حتى يتّضح الأمر بتذكّرهما أو بشهادة غيرهما1.
مسألة 9: لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد حكمه بموت أو جنون ، لم يقدح ذلك في العمل بحكمه ، وفي لزوم إنفاذه على حاكم آخر لو توقّف استيفاء الحقّ عليه ، ولو تغيّرت بفسق فقد يقال: لم يعمل بحكمه أو يفصّل بين ظهور الفسق قبل إنفاذه فلم يعمل أو بعده فيعمل ، والأشبه العمل مطلقا كسائر العوارض ، وجواز إنفاذه أو وجوبه2.
1 ـ من الواضح أنّه لو اشتبه الأمر على الحاكم الثاني; لعدم ضبط الشهود ما يرفع به الإبهام عن أحد الاُمور التي تقدّم ـ أنّه لابدّ أن يكون خالياً عن الإبهام والإجمال ـ لا يجوز له الإنفاذ حتى يتّضح الأمر بتذكّرهما أو بشهادة غيرهما، كما لايخفى .
2 ـ لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد إنشائه الحكم ورفع التنازع وفصل الخصومة ، فتارةً يكون التغيّر بموت أو جنون ، واُخرى بزوال العدالة وعروض الفسق ، فإن كان بالأوّل فالظاهر عدم قدح ذلك في العمل بحكمه ، وفي لزوم إنفاذه على حاكم آخر إذا توقّف استيفاء الحقّ عليه; لأنّ اعتبار الحياة وعدم الجنون إنّما يلاحظ بالإضافة إلى حال الإنشاء وحال صدور الحكم ، وأمّا عروضهما أو أحدهما بعد الإنشاء فلا دخل له في اعتبار الإنشاء المصحّح للحكم بالإنفاذ من الحاكم الثاني ، كما لايخفى .
وإن كان بالثاني ، فمقتضى القاعدة هو الحكم في الصورة الاُولى من أنّ الملاك حال الإنشاء من جهة اعتبار صفات القاضي التي منها العدالة ، لكن المحقّق في
(الصفحة 343)
الشرائع وجماعة أخرى ذكروا أنّه إن تغيّر بفسق لم يعمل بحكمه(1) ، وفي محكيّ المسالك أنّهم فرّقوا بينه وبين الموت ، بأنّ ظهور الفسق يشعر بالخبث وقيام الفسق يوم يرفع الحكم(2) .
هذا ، ولكنّ الظاهر ـ مضافاً إلى عدم تمامية الإشعار المذكور ، بل مقتضى الاستصحاب بقاء العدالة إلى ظهور الفسق ـ أنّ المفروض وجود العدالة المعتبرة في القاضي حال إنشائه وصدور حكمه ، ولا يكون ظهور الفسق كاشفاً عن عدم العدالة حال الحكم ، لأنّ الفسق والعدالة ليسا بأولى من الإيمان والكفر ، وقد قال الله تعالى:
{إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازدَادُوا كُفراً}(3) ، وظاهره تحقّق هذه الأوصاف حقيقة لا مجازاً . وعليه فالعادل الواقعي يمكن أن يصير فاسقاً ، لا أنّ فسقه يكشف عن عدم عدالته سابقاً .
ومنه يظهر بطلان التفصيل بين ما إذا كان ظهور الفسق قبل إنفاذه أو بعده ، فإنّ الظهور قبل الإنفاذ لا يقدح في جوازه أو لزومه بعد تحقّق الخصوصيات المعتبرة حال الإنشاء ، فالأشبه كما في المتن العمل به ، أي صحّة إنفاذه مطلقا من دون فرق بين الظهور قبله أو بعده .
ثمّ الظاهر أنّ مراده أي المحقّق عدم إنفاذ حكمه فيما إذا تغيّر بفسق لا أصل العمل بحكمه ، وإلاّ يلزم أوّلا ما ذكره في الجواهر من اقتضائه بطلان ما وقع من العمل بفتاواه الذي هو أولى بذلك من الحكم، وهو معلوم
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 886 ، قواعد الأحكام: 2 / 217 ، إرشاد الأذهان: 2 / 148 ، الدروس الشرعيّة: 2 / 92 ، مجمع الفائدة والبرهان: 12 / 216 .
- (2) مسالك الأفهام: 14 / 20 .
- (3) سورة النساء 4: 137 .