(الصفحة 353)
وغيره من الفساد الذي يمكن دعوى العلم من مذاق الشرع بعدم جواز فعل ما يترتّب عليه ذلك ، وإن كان مباحاً في نفسه أو مستحبّاً أو واجباً ، وإن لم يكن الترتيب ترتيب سببية أو علّية(1) .
أقول: أمّا في صورة عدم وصول إثارة الفتنة إلى الحدّ المزبور فواضح ، وأمّا في صورة الوصول إليه فالظاهر أنّ المورد من مصاديق اجتماع الأمر والنهي ومثلهما فانّه هنا عنوانين: أحدهما: أخذ العين التي تكون لنفسه وملكاً لها . والآخر إثارة الفتنة . ولا مانع من بقاء كلّ منهما على حكمه من دون أن تتحقّق السراية ، وحرمة الثاني لا يستلزم حرمة الأوّل بوجه . وما ورد في بيع الوقف من أنّه ربّما حصل من الاختلاف تلف الأنفس والأموال فإنّما هو حكمة لأصل الحكم ، وهو الجواز في الصورة المذكورة، فهو غير المقام .
ثمّ إنّ جواز بيع مال الغير لأخذ الحقّ في صورة عدم إمكان أخذ عينه منه إنّما هو لأجل انحصار طريق الاستيفاء به ، فمقتضى القاعدة وإن كان هو أنّه «لا بيع إلاّ في ملك» إلاّ أنّ الالتزام بالبطلان مناف لوصوله إلى حقّه ، فالبيع في هذا المورد نظير بيع الحاكم مال المديون في صورة إبائه عن أداء الدين مع كونه واجداً ، وبيع غير المالك في سائر الموارد الجائزة .
ثمّ إنّه لو أمكن له الوصول إلى عينه لكن بعسر ومشقّة ، كدخول دار الغير الذي تكون العين عنده ، أو كسر قفل حانوته أو نحو ذلك ، فمع عدم إثارة الفتنة الظاهر جواز الأمرين ، خصوصاً فيما لو كان الغير عالماً بأنّها ماله ومع ذلك جحده وأنكره ، أمّا جواز مثل دخول الدار فلانحصار طريق الوصول إلى العين به كما هو المفروض ،
- (1) جواهر الكلام: 40 / 387 .
(الصفحة 354)مسألة 3: لو كان المطلوب مثليّاً وأمكن له المقاصّة من ماله المثلي وغيره ، فهل يجوز له أخذ غير المثلي تقاصّاً بقدر قيمة ماله ، أو يجب الأخذ من المثلي ، وكذا لو أمكن الأخذ من جنس ماله ومن مثلي آخر بمقدار قيمته ، مثلا لو كان المطلوب حنطة وأمكنه أخذ حنطة منه بمقدار حنطته وأخذ مقدار من العدس بقدر قيمتها ، فهل يجب الاقتصار على الحنطة أو جاز الأخذ من العدس؟ لا يبعد
وأمّا جواز المقاصّة فلعدم وجود ما فيه العسر والحرج .
ودعوى أنّ التقاص حيث إنّه على خلاف الأصل يقتصر فيه على المورد المتيقّن ، وهو ما إذا لم يمكنه أصلا التوصل إلى أخذ حقّه بالترافع عند الحاكم ، مدفوعة: بأنّ مقتضى إطلاق أدلّة مشروعية التقاص الجواز مطلقا ، كما ذهب إليه بعض الأعلام(1) ، فلا مجال للاقتصار على المورد المتيقّن ، وان كان يبعّده كون جلّ القضاة منصوبين من قبل سلاطين الجور وكون قاضي العدل قليلا ، كما لايخفى .
نعم فيما إذا أمكن ذلك بدون العسر والحرج فالظاهر هو عدم جواز المقاصة; لأنّ مورد تلك الأدلّة على ما هو المتفاهم عند العرف صورة انحصار طريق التوصل إلى الحقّ في المقاصّة .
نعم في صورة العسر والحرج الظاهر جواز كلا الأمرين ، وعدم التعيّن في طريق الترافع منع فرض ثبوت العسر والحرج ، كما لا يخفى .
ثمّ إنّه لا يلاحظ هنا ضرر الغير; لعدم جريان قاعدة نفي الضرر بالإضافة الى الأحكام الفرعية ، وقد نبّهنا على الاختلاف في مجرى قاعدة لا ضرر وفي مفادها في موارد عديدة ، فراجع .
- (1) مباني تكملة المنهاج : 1 / 46 .
(الصفحة 355)جواز التقاص مطلقا فيما إذا لم يلزم منه بيع مال الغاصب وأخذ القيمة ، ومع لزومه وإمكان التقاص بشيء لم يلزم منه ذلك ، فالأحوط بل الأقوى الاقتصار على ذلك ، بل الأحوط الاقتصار على أخذ جنسه مع الإمكان بلا مشقة ولا محذور1.
1 ـ قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز المقاصة من مال الغير; لعدم حلّية التصرّف في مال الغير بغير إذنه(1) ، ولكنّ الأدلّة المتقدّمة يستفاد منها المشروعية والجواز ، واللاّزم فيما إذا لم يكن هناك إطلاق الأخذ بالقدر المتيقّن ، وعليه فما نفى عنه البعد في المتن من جواز التقاص مطلقا فيما إذا لم يلزم منه بيع مال الغير في غاية البعد; لأنّ المفروض إمكان التقاص له من الحنطة التي هي مطلوبة ، فلا مجال له لأخذ العدس مكانها بمقدار القيمة فضلا عن قيمي يماثل الحنطة في مقدار القيمة .
ولا إطلاق في شيء من روايات مشروعية المقاصة ، بل موردها القيمي أو مثل الدراهم ، كما يظهر بالمراجعة إليها ، ولكن يؤيّده أنّه لو فرض كون المطلوب مثلياً ووقع عنده قيميّ يعادله من حيث المالية ، فهل لا يجوز له التقاص إلاّ بعد بيع القيمي أو يجوز له التقاص به؟ الظاهر هو الثاني كما لايخفى . اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الكلام في خصوص صورة الإمكان .
نعم في صورة المشقّة والعسر والحرج يجوز له الأخذ من العدس ، ولا يتعيّن في أخذ الحنطة ، كما ذكرنا نظيره بالنسبة إلى الترافع عند الحاكم والتقاص من دون الترافع ، من أنّه مع العسر والحرج يتخيّر بين الأمرين: الترافع والتقاص ، وسيأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى أنّه لو أمكن أخذ ماله يعني عينه الشخصية
(الصفحة 356)مسألة 4: لو أمكن أخذ ماله بمشقّة فالظاهر جواز التقاص ، ولو أمكن ذلك مع محذور كالدخول في داره بلا إذنه أو كسر قفله ونحو ذلك ففي جواز المقاصّة إشكال ، هذا إذا جاز ارتكاب المحذور وأخذ ماله ولو أضرّ ذلك بالغاصب ، وأمّا مع عدم جوازه كما لو كان المطلوب منه غير غاصب وأنكر المال بعذر ، فالظاهر جواز التقاص من ماله إن قلنا بجواز المقاصّة في صورة الإنكار لعذر1.
بمشقّة فالظاهر جواز التقاص .
وممّا ذكرنا ظهر وجه الأقوائية في صورة استلزام البيع ، فإنّ الحكم بصحة البيع في هذه الصورة ـ مع عدم انحصار التوصل إلى الحقّ به ـ في غاية الضعف ، خصوصاً مع أنّه «لا بيع إلاّ في ملك» ، ومع أنّ خصوصيات الأجناس ربما تكون مقصورة لمالكها ، كما لايخفى .
1 ـ أمّا جواز التقاص فيما لو أمكن أخذ ماله بمشقّة فلما عرفت(1) في بعض المسائل السابقة من جواز المقاصّة في صورة العسر والحرج ، وإن كان يمكن له الترافع إلى غير حكّام الجور مع عدم سهولة ، خصوصاً مع أنّ تعلّق الغرض بخصوصيات العين غير قليل . وأمّا في صورة إمكان الأخذ مع محذور فالظاهر أنّ المراد من المحذور الشرعي هي الحرمة التكليفية أو الوضعية كالضمان ، مع أنّه ليس هناك محذور بالإضافة إلى الغاصب لأخذ العين المغصوبة منه .
وعليه فكما أنّه يجوز الدخول في داره أو كسر قفله لأخذ عينه ، كذلك تجوز المقاصّة كماعرفت سابقاً(2)، لا لماورد في الكتب الفقهية من أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ
(الصفحة 357)
الأحوال; لأنّه لا مستند له على ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)(1) ، بل لأنّ جحد الغاصب يكون نوعاً مع عدم النسيان ورؤية نفسه غير محقّة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ الجمع بين جعل الموضوع الإمكان مع محذور ، وبين تقسيم المحذور إلى صورة الجواز وعدمه ممّا لا يستقيم ، فإنّه إن كان المراد بالمحذور الشرعي فلا معنى لفرض جوازه ، وإن كان المحذور العرفي الذي هو عبارة أخرى عن المشقة والعسر ، فلا يلائم مع المقابلة مع الفرض الأوّل ، كما لايخفى .
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المراد بالمحذور ما كان بعنوانه الأوّلي كذلك ، وبالجواز ما كان جائزاً بعنوانه الثانوي ، كما إذا توقّف حفظ نفس محترمة على دخول دار الغير بغير إذنه ، حيث إنّ دخول دار الغير بغير إذنه حرام بعنوانه الأوّلي ، وواجب بعنوان المقدّمة المنحصرة لحفظ النفس ، وهكذا المقام ، فإنّ مثل دخول دار الغير بغير إذنه حرام بالعنوان الأوّلي وجائز بعنوان توقّف التوصل إلى الحقّ عليه .
ويرد على هذا القول: إنّه خلاف ظاهر العبارة ، خصوصاً مع أنّ مبناه جواز اجتماع الأمر والنهي ، وكفاية تعدّد العنوانين في صحّة اجتماع الحكمين ، كما قرّره في الأصول .
وأمّا لو كان المطلوب منه غير غاصب وأنكر المال لعذر ، فقد عرفت في المسألة الاُولى أنّ الأشبه عدم جواز المقاصّة فيما إذا كان معتقداً بأحقّية نفسه ، أو كان لا يدري محقّية المدّعي ، وعلّلناه بأنّ المقاصة حيث تكون على خلاف القاعدة يقتصر فيها على القدر المتيقّن ، خصوصاً مع ملاحظة مورد كثير من الروايات السابقة(2) ،
- (1) المكاسب: 7 / 331 .
- (2) في ص348 ـ 349 .