(الصفحة 363)
المذكور ، وقد فصّل في المتن بين ما إذا كانت مثلية واقتص مثلها ، فنفى البعد عن حصول المعاوضة القهرية على تأمّل ، وبين ما إذا كانت قيمية واقتص بمقدار قيمتها ، ففيه إشكال من جهة المعاوضة القهرية ، أو كان الاقتصاص بمنزلة بدل الحيلولة ، ونفى البعد عن الثاني . وقد مرّ كلام في هذا المجال من المحقّق العراقي في الرسالة(1) ، وعرفت أنّ الظاهر عدم كون الاقتصاص معاوضة قهرية ثابتة بالكتاب والسّنة(2) ، فراجع .
وإن كان يظهر من صاحب الجواهر الأوّل ، حيث قال فيها: وينبغي أن يلزمه انتقال مقابله إلى ملك الغاصب; لقاعدة عدم الجمع بين العوض والمعوّض عنه ، بل قد يشكل استحقاق الردّ عليه لو بذله له بعد ذلك ، بل لعلّه كذلك لو كان البذل من المالك استصحاباً لملك العوض، واحتمال كون الملك متزلزلا ـ نحو ما ذكروه في القيمة التي يدفعها الغاصب للحيلولة ـ مناف لقاعدة اللزوم بعد ظهور النصوص في ذلك ، بل يمكن دعواه أيضاً هناك ، ويجعل ما هنا دليلا عليه ، فتأمّل جيّداً(3) .
ويدفعه المنع من الجمع بين العوض والمعوّض بعد عدم تحقّق تسلّطه في زمان واحد إلاّ على واحد منهما ، ومجرّد الجمع في الملكية من دون أن يدلّ دليل هناك على ثبوت المعاوضة ليتحقق عنوان العوض والمعوّض ممنوع ، ويؤيّد عدم ثبوت المعاوضة أنّه ربّما تكون خصوصيات العين أو بعضها مطلوبة للمالك ، فإذا قلنا: بثبوت المعاوضة يلزم ارتفاع يده عنها ، بخلاف ما إذا كان على نحو بدل الحيلولة التي لا تكون الخصوصيات مرتفعة يده عنها بمجرّد تحقّق الحيلولة ، فالاعتبار
- (1 ، 2) في ص352 ـ 353 .
- (3) جواهر الكلام: 40 / 396 .
(الصفحة 364)مسألة 9: الأقوى جواز المقاصّة من المال الّذي جعل عنده وديعةً على كراهية ، والأحوط عدمه1.
يساعد على عدم التعارض; لأنّ غرض المالك يتحقّق معه دون المعاوضة القهرية .
ثمّ إنّه يترتّب على المعاوضة القهرية وبدل الحيلولة أنّه لو تمكّن المقاص من العين جاز أخذها ، ويجب عليه ردّ ما أخذ بدلها ، وكذا لا يجوز للغاصب التصرّف فيها بعد الاقتصاص ، بل يجب عليه الردّ إلى المغصوب منه بناءً على بدل الحيلولة بخلاف المعاوضة القهرية ، إلاّ أن يلزم بانفساخ المعاوضة حينئذ قهراً وهو كما ترى ، كما لايخفى .
1 ـ قال المحقّق في الشرائع : لو كان المال وديعة عنده ففي جواز الاقتصاص تردّد أشبهه الكراهة(1) ، وأضاف إليه في الجواهر(2) قوله: وفاقاً لأكثر المتأخّرين(3) .
وقد وردت فيه طائفتان من الأخبار:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على الجواز ، مثل: صحيحة أبي العبّاس البقباق المتقدّمة في ذيل المسألة الاُولى ، وكذا رواية علي بن سليمان المتقدّمة ، ومثل بعض الروايات الاُخر الشاملة بإطلاقها للوديعة كصحيحتي داود وأبي بكر المتقدّمتين(4) .
الطائفة الثانية: ما تدلّ على المنع:
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 896 .
- (2) جواهر الكلام: 40 / 391 .
- (3) قواعد الاحكام: 2 / 213 ، إيضاح الفوائد: 4 / 347 ، الدروس: 2 / 85 ـ 86 ، التنقيح الرائع: 4 / 269 ـ 270 .
- (4) في ص348.
(الصفحة 365)
مثل: رواية ابن أخي الفضيل بن يسار قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام)ودخلت امرأة ، وكنت أقرب القوم إليها ، فقالت لي: اِسأله ، فقلت: عمّاذا؟ فقالت: إنّ ابني مات وترك مالا كان في يد أخي فأتلفه ، ثمّ أفاد مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شيء؟ فأخبرته بذلك ، فقال: لا ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك(1) .
وموثقة سليمان بن خالد المتقدّمة المشتملة على قوله: إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عبته عليه(2) .
وصحيحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يكون لي عليه حقّ فيجحدنيه ، ثمّ يستودعني مالا ، ألي أن آخذ مالي عنده؟ قال: لا ، هذه الخيانة(3) .
هذا مضافاً إلى الاطلاقات الواردة الدالّة على وجوب ردّ الأمانة وأدائها إلى صاحبها ، ولو إلى قاتل الحسين (عليه السلام) أو ضارب عليّ (عليه السلام) بالسيف(4) ، ويؤيّدها إطلاق الكتاب وعمومه ، مثل قوله تعالى:
{إنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أن تُؤَدّوا الأَمَانَاتَ إِلى أهلِهَا}(5)
.
أقول: الظاهر في أمثال هذا المورد حمل الأخبار الناهية على الكراهة لظهورها في الحرمة ، وصراحة أخبار الجواز في الجواز ، والجمع العرفي بين النصّ والظاهر
- (1) التهذيب: 6 / 348 ح981 ، الإستبصار: 3 / 172 ، الوسائل: 17/ 273 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح3 .
- (2) التهذيب: 6 / 348 ح980 ، الإستبصار: 3 / 52 ح171 ، الوسائل: 17/ 274 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح7 .
- (3) الفقيه: 3 / 114 ح483 ، الوسائل: 17/ 275 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح11 .
- (4) وسائل الشيعة: 19/ 72 ـ 76 ، كتاب الوديعة ب2 ح2 ، 4 ، 8 ، 12 ، 13 .
- (5) سورة النساء 4: 58 .
(الصفحة 366)
يقتضي حمل الظاهر على النصّ ، فلا تصل النوبة إلى المرجّحات المذكورة في الأخبار العلاجية بعد كون موضوعها المتعارضين، والنصّ والظاهر ليسا كذلك ، فما عن النهاية(1) والغنية(2) والكيدري(3) والقاضي(4) من القول بعدم الجواز ، بل عن الغنية الإجماع عليه واضح الضعف ، وإن توقّف فيه في ظاهر المحكيّ عن الدروس(5) والرّوضة(6)، بل مال إليه الأردبيلي(7) .
وما يمكن أن يقال وجهاً للمنع: من أنّ الأدلّة بعد تعارض الخاصّة منها وتساقطها ، فالعمومات بينهما تعارض العموم والخصوص من وجه ولا ترجيح ، والأصل حرمة التصرّف في مال الغير ، وعدم تعيين الكلّي في ذمّة المديون بتعيين غيره ، يدفعه ما ذكرنا من عدم التعارض بين الأدلّة الخاصة بعد حمل الظاهر على النص ، فلا تصل النوبة إلى العمومات أصلا .
ودعوى أنّ روايات المنع صريحة في الحرمة وتأبى الحمل على الكراهة ، مدفوعة بأنّ الصراحة إمّا من ناحية الهيئة وإمّا من ناحية المادة أي المتعلّق للنهي ، أمّا الصيغة وهي النهي فلا إشكال في ظهورها في الحرمة لا صراحتها فيها ، وأما المتعلّق أو التعليل في بعضها وهي الخيانة فقد عرفت أنّ التعبير بها أو بالظلم إنّما هو للمشابهة ، لا أنّ المقاصّة خيانة واقعاً وظلم كذلك ، بل هو مثل الاعتداء في الآية
- (1) النهاية: 307 .
- (2) غنية النزوع: 240 .
- (3) إصباح الشيعة: 284 .
- (4) لم أجده في المهذّب ، نعم نقل عن ابن البرّاج الصيمري في غاية المرام: 4 / 254 ، فلعلّه نقل عن كامله .
- (5) الدروس : 2 / 85 ـ 86 .
- (6) الروضة البهيّة: 3 / 242 .
- (7) مجمع الفائدة والبرهان: 12 / 107 ـ 110 .
(الصفحة 367)
الشريفة(1) ، ضرورة عدم كونه اعتداءً حقيقة . فأخبار المنع ظاهرة في الحرمة قابلة للحمل على الكراهة .
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الكراهية الثابتة بعد حمل أخبار النهي على الحرمة لا تجتمع مع ما في صحيحة البقباق من قوله: أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ وتحلف(2) بعد ظهور قوله: «أحبّ» في الاستحباب ، ووضوح عدم دخالة الحلف في ذلك ، فهي ظاهرة في الاستحباب الذي لا يجتمع مع الكراهة ، فالمعارضة متحقّقة .
أقول: هذه المعارضة ـ مضافاً إلى أنّها لا تنتج الحرمة لخروجها عن الطرفين اللذين هما الاستحباب والكراهة ـ لازمها الحكم بالكراهة; لأنّه لم يقل أحد بالاستحباب، فالشهرة بل الإجماع على خلافه(3) ، فاللاّزم ثبوت الكراهة ، فتدبّر جيّداً.
بل قال صاحب الجواهر (قدس سره): لولا شهرة الكراهة لأمكن المناقشة فيها بظهور قوله (عليه السلام): «أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ وتحلف» في عدمها ، مع احتمال حمل ما دلّ على النّهي عن خيانة من خان على ما لو استحلفه ، فإنّه لا يجوز حينئذ المقاصّة ، كما أومأ إليه في خبر عبدالله بن وضاح مع اليهودي الذي حلّفه ، ثمّ وقع له عنده أرباح تجارة دراهم كثيرة ، فسأل أبا الحسن (عليه السلام) عن ذلك . فقال له: «إن كان ظلمك فلا تظلمه ، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك»(4) ، وهو
- (1) سورة البقرة 2: 194 .
- (2) التهذيب: 6 / 347 ح979 ، الإستبصار: 3 / 53 ح174 ، الوسائل: 17/ 272 ، أبواب ما يكتسب به ب83 ح2 .
- (3) مستند الشيعة: 2 / 600 ـ 601 ، رياض المسائل: 9 / 371 .
- (4) الكافي: 7 / 430 ح14 ، الوسائل: 27 / 246 ، أبواب كيفيّة الحكم ب11 ح2 .