(الصفحة 401)
ويرد عليه أنّ الظاهر يكون المراد من الصحيحة الاُولى الردّ على العامة غير القائلين بقبول شهادة الشيعة وان كانوا في أعلى مراتب العدالة ، وإلاّ فشهادة غير المؤمن مقبولة عندهم ، وكان الغرض أنّه لم لا تقبل شهادة الشيعة إذا علم منهم خير ، ولو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادتهم . ويمكن أن يكون المراد الاكتفاء بشاهد ويمين في مطلق حقوق الناس ، وعليه فالمراد بالرجل هو الرجل الواحد ، وعلى هذا فلا دلالة لها على ما يعتبر في الشاهد ، وظاهر الصحيحة الثانية عدم قبول شهادة العبد المملوك قبل اعتاقه ، مع انّك عرفت في بحث اعتبار البلوغ عدم كون المملوكية مانعة عن قبول الشهادة ، وظاهرها أنّ العبد لا يتّصف بالعدالة ما دام كونه عبداً ، مع أنّ العبودية لا تمنع عن العدالة بوجه .
فالانصاف أنّه لا فرق بين الطائفتين المذكورتين في عدم قبول شهادتهم على المؤمن أو له ، ويؤيّده بل يدلّ عليه عدم ثبوت العدالة الحقيقية إلاّ للمؤمن ولا توجد في غيره ، قال الله تعالى في سورة الطلاق :
{وَأَشهِدُوا ذَوَي عَدل مِنكُم}(1) ، غاية الأمر وجوب الإشهاد في باب الطلاق وعدم وجوبه في غيره ، وامّا من جهة صفات الشهود فلا فرق بين المقامين ، لكنّ الذي يشكل الأمر أنّه لو كان اعتبار العدالة التي هي وصف رابع من صفات الشهود كافياً عن اعتبار البلوغ والعقل والايمان لكان اللازم الاقتصار عليه لا ذكرها بعنوان وصف غيرها ، بل بعنوان وصف رابع ، فتدبّر جيّداً .
ثم إنّ هنا بعض الروايات التي يتوهم منها قبول شهادة الناصب فضلا عن غيره من المخالفين ، مثل صحيحة عبدالله بن المغيرة قال : قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) :
(الصفحة 402)
رجل طلّق امرأته وأشهد شاهدين ناصبيّين ، قال : كلّ من ولد على الفطرة وعرف بالصّلاح في نفسه جازت شهادته(1) . ومثلها صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر في باب الطلاق(2) .
ويرد عليهما ـ مضافاً إلى مخالفتهما لظاهر الكتاب في باب الطلاق ـ أنّ العدول عن الجواب بنعم أو لا والجواب بما ذكر جمع بين التقية وبيان الواقع ، خصوصاً أنّ المسلم المولود على فطرة الإسلام لا يكون ناصبياً; لأنّ الناصب كافر وان انتحل الإسلام ، بل الإسلام الواقعي هو الإسلام المبيّن في مدرسة أهل البيت عليهم الصلاة والسّلام .
وكيف كان فقد ذكر صاحب الجواهر(قدس سره) : أنّه لا يمكن احصاء وجوه الدلالة في النصوص على عدم قبول شهادتهم ، منها : اطلاق الكفر ، ومنها : الفسق ، ومنها : الظلم ، ومنها : كونهم غير رشدة ، ومنها : ردّ شهادة الفحاش وذي المخزية في الدين ، ومنها : ممن ترضون دينه وأمانته ، ومنها : اعتبار العدالة التي قد ذكر في النصوص ما هو كالصريح في عدم تحقّقها في مخالفي العقيدة ، إلى غير ذلك من النصوص(3) .
وبعد ملاحظة ما ذكرنا لا ينبغي الارتياب في عدم قبول شهادة غير المؤمن على المؤمن أو له في الجملة ، الذي هو الأساس في اعتبار هذا الأمر ، خصوصاً مع أنّ التعليل في مثل مقبولة ابن حنظلة(4) من الروايات الواردة في علاج المتعارضين المشتملة على الترجيح بمخالفتهم بأنّ الرشد في خلافهم يظهر منه أنّ جنس الرشد
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 393 ، كتاب الشهادات ب41 ح5 .
- (2) وسائل الشيعة : 22 / 26 ، أبواب مقدّمات الطلاق ب10 ح4 .
- (3) جواهر الكلام : 41 / 17 .
- (4) وسائل الشيعة : 27 / 106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب9 ح1 .
(الصفحة 403)
وطبيعته في خلافهم ، فلا يجوز للحاكم الاعتماد على شهادتهم للوصول إلى الواقع . ودعوى أنّ الشاهد لا دخل له في الرشد واضحة البطلان ، فكون الرشد في خلافهم لا يجتمع مع قبول شهادتهم بوجه .
بقي في هذا الشرط الثالث أمران :
الأمر الأول : أنّه تقبل شهادة الذمّي العدل في دينه في خصوص الوصية بالمال إذا لم يوجد عدول المسلمين لأنْ يشهدوا; والأصل في هذا الأمر قوله تعالى :
{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُم إذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثنَانِ ذَوَا عَدل مِنْكُم أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم إنْ أَنتُم ضَرَبتُم فِي الأَرضِ فَأَصَابَتكُم مُصِيبَةُ المَوتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعدِ الصَّلاةِ فَيُقسِمانِ بِاللهِ اِن ارتَبتُم لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَو كَانَ ذَا قُربَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ اِنّا إذاً لَمِنَ الآثِمِينَ}(1) والروايات الواردة في هذا المجال كثيرة :
منها : صحيحة عبيدالله بن علي الحلبي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) هل تجوز شهادة أهل الذمّة على غير أهل ملّتهم؟ قال : نعم إن لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم ، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد (2) .
ومنها : مضمرة أحمد بن عمر الصحيحة قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ :
{ذَوَا عَدل مِنكُم أَو آخَرَان مِن غَيركُم} قال : اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فإن لم يجد من أهل الكتاب فمن المجوس; لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ، وذلك إذا مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمين
- (1) المائدة 5 : 106 .
- (2) وسائل الشيعة : 27 / 389 ، كتاب الشهادات ب40 ح1 .
(الصفحة 404)
يشهدهما فرجلان من أهل الكتاب(1) .
ومنها : صحيحة هشام بن الحكم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ :
{أَو آخَرانِ مِن غَيرِكُم} فقال : إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم في الوصية (2) .
ومنها : موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن شهادة أهل الملّة؟ قال: فقال : لا تجوز إلاّ على أهل ملّتهم ، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية; لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد (3) .
إذا عرفت ما ذكرنا فلا ينبغي الإشكال بملاحظة الكتاب والسنّة في أصل المسألة ، وهو قبول شهادة الذمي في الوصية بالمال ، وحيث يكون الحكم على خلاف القاعدة فاللازم الاقتصار على القدر المتيقّن ، وهو كون الوصية بالمال وكون الشاهدين ذميّين وكونهما مرضييّن في دينهما ، وفرض عدم وجدان الشاهدين من المسلمين أي المؤمنين ، وأمّا اعتبار كون الوصيّة في أرض الغربة فقد نفاه في المتن ، وذكر المحقّق في الشرائع : أنّ باشتراطه رواية مطرحة(4) ، والظاهر أنّها هي رواية حمزة بن حمران ، عن الصادق (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عزوجل:
{ذَوَا عَدل مِنكُم أَو آخَرَانِ مِن غَيْرِكُم} قال : فقال : اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فقال : إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّته فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته رجلين ذميّين
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 390 ، كتاب الشهادات ب40 ح2 .
- (2) وسائل الشيعة : 27 / 390 ، كتاب الشهادات ب40 ح3 .
- (3) وسائل الشيعة : 27 / 390 ، كتاب الشهادات ب40 ح4 .
- (4) شرائع الإسلام : 4 / 911 .
(الصفحة 405)
من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما(1) .
هذا ، مع كون الرواية مطرحة عند مشهور الأصحاب ، ولا مجال للالتزام بها كما حقّق في محلّه ، فالظاهر أنّ القيد غالبيٌ لا مجال للالتزام به ، وإن كان يشعر به ظاهر الآية الشريفة بلحاظ قوله تعالى :
{إن أنتُم ضَرَبتُم فِي الأَرضِ} ، كما أنّ ظاهره عدم الترتيب ، مع أنّك عرفت أنّ قوله:
{أَو آخَرَان مِن غَيركُم} انّما هو في صورة عدم وجدان الشاهدين من المؤمنين .
ثمّ إنّه لا يلحق بالذمّي الفاسق من أهل الايمان; لظهور الأدلّة من الكتاب والسنّة في أنّ العِدل للشاهدين المؤمنين هو آخران من غير المؤمنين ، والفاسق وان كان من أهل الايمان والكفر أعظم من الفسق ، إلاّ أنّ الدليل قد دلّ على ما ذكر خصوصاً مع اشتراط كونهما مرضيين في دينهما عادلين كذلك ، لكن عن التذكرة لو وجد مسلمان فاسقان ، فان كان فسقهما بغير الخيانة والكذب فالأولى انّهما أولى من أهل الذمّة ، وإن كان فسقهما يتضمّن اعتماد الكذب وعدم التحرّز عنه فأهل الذمة أولى(2) .
وهل يلحق بالذمّي المخالف العادل في مذهبه؟ قد نفى البعد عنه في المتن ، والسرّ فيه أولوية المخالف عن الكافر في هذه الجهة ، مع وجود شرط العدالة فيه وإن كانت بحسب مذهبه ، والأخبار الدالّة على أنّ قوله تعالى:
{أَو آخَرَان مِن غَيرِكُم} يراد بها أو آخران من غير المؤمنين لا خصوص أهل الكتاب ، كما لا يخفى ، اللهمّ إلاّ أن
يقال : إنّه خلاف الظاهر ، فنفي البعد ليس في محلّه .
- (1) وسائل الشيعة : 19 / 312 ، كتاب الوصايا ب20 ح7 .
- (2) تذكرة الفقهاء : 2 / 521 ـ 522 .