(الصفحة 411)
ثمّ إنّ الآية الاُولى تدلّ على قبول شهادة الرامي بعد التوبة والاصلاح ، والكلام يقع حينئذ في الأمرين :
الأمر الأول : في حدّ التوبة ، وقد ذكر المحقّق في الشرائع : وحدّ التوبة أن يكذب نفسه وإن كان صادقاً يورّي باطناً ، وقيل(1) : يكذّبها إن كان كاذباً ويخطّئها في الملأ إن كان صادقاً ، والأوّل مرويّ(2) . ويظهر من الجواهر(3) أنّه لا يكون في المسألة أزيد من هذين القولين .
والروايات عبارة عن صحيحة عبدالله بن سنان قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام)عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال : إذا تاب ، وتوبته أن يرجع ممّا قال ، ويكذّب نفسه عند الإمام وعند المسلمين ، فإذا فعل فانّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك(4) فانّ السؤال وإن كان عن مطلق المحدود إلاّ أنّ الجواب منطبق على القاذف المحدود; لأنّ تكذيب النفس لا يكون إلاّ فيه ، ويمكن أن يقال بأنّ السؤال ناظر إلى الآية الشريفة الواردة في القذف ، وعلى أيّ حال فدلالة الجواب على أنّ حدّ التوبة تكذيب النفس لا إشكال فيه .
ورواية أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن القاذف بعدما يقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال : يكذب نفسه ، قلت : أرأيت ان أكذب نفسه وتاب أتقبل شهادته؟ قال : نعم (1) .
- (1) قاله الشيخ في المبسوط:8/179،وابن إدريس في السرائر:2/116،ويحيى بن سعيدفي الجامع للشرائع: 540.
- (2) شرائع الإسلام : 4 / 912 .
- (3) جواهر الكلام : 41 / 39 .
- (4) وسائل الشيعة : 27 / 385 ، كتاب الشهادات ب37 ح1 .
(الصفحة 412)
ورواية القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّاً ، ثم يتوب ولا يعلم منه إلاّ خير أتجوز شهادته؟ قال : نعم ، ما يقال عندكم؟ قلت : يقولون : توبته فيما بينه وبين الله ، ولا تقبل شهادته أبداً ، فقال : بئس ما قالوا ، كان أبي يقول : إذا تاب ولم يعلم منه إلاّ خير جازت شهادته(2) .
ومرسلة يونس ، عن بعض أصحابه ، عن أحدهما(عليهما السلام) قال: سألته عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحدّ إذا تاب؟ فقال : نعم ، قلت : وما توبته؟ قال : يجيء فيكذب نفسه عند الإمام ويقول : قد افتريت على فلانة ويتوب ممّا قال(3) .
نعم في رواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي(عليهم السلام) قال : ليس أحد يصيب حدّاً فيقام عليه ثم يتوب إلاّ جازت شهادته إلاّ القاذف ، فانّه لا تقبل شهادته ، إنّ توبته فيما كان بينه وبين الله تعالى (4) . ولكن ذكر في الجواهر : أنّ الاستثناء المزبور قد اختصّ به بعض نسخ التهذيب ، وقد خلا عنه البعض الآخر والكافي الذي هو أضبط من التهذيب (5) .
أقول: وعلى تقدير وجوده لابدّ من رفع اليد عنه لمخالفته لظاهر الآية الشريفة ، وموافقته للتقية والشهرة المحققة الفتوائية على خلافها . ثم إنّ تكذيب النفس هل يلزم أن يكون عند الإمام الذي أقام الحدّ عليه ، أو عند المقذوف، أو عند جماعة من
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 383 ، كتاب الشهادات ب36 ح1 .
- (2) وسائل الشيعة : 27 / 383 ، كتاب الشهادات ب36 ح2 .
- (3) وسائل الشيعة : 27 / 384 ، كتاب الشهادات ب36 ح4 .
- (4) وسائل الشيعة : 27 / 384 ، كتاب الشهادات ب36 ح6 .
- (5) جواهر الكلام : 41 / 37 .
(الصفحة 413)
المسلمين ، أو عند الإمام والمسلمين؟ الظاهر كما في الجواهر(1) إرادة الإجهار بذلك لا كونه شرطاً في التوبة ، والسرّ فيه أنّ هذا الأمر المحرّم يوجب وقوع عرض الناس في معرض التوهم بل أزيد ، ومجرّد التوبة الحاصل بالندم والعزم على عدم العود والإستغفار من الله تعالى لا يوجب الجبران ، بل الجابر هو تكذيب النفس إجهاراً ، وهذا بخلاف التوبة بالإضافة إلى سائر المحرمات .
الأمر الثاني : أنّ المذكور في الآية في ناحية المستثنى هي التوبة والإصلاح ، وهل الاصلاح أمر آخر زائد على التوبة أم لا؟ قال المحقّق في الشرائع: وفي إشتراط اصلاح العمل زيادة على التوبة تردّد ، والأقرب الإكتفاء بالاستمرار; لأنّ بقاءه على التوبة إصلاح ولو ساعة(2) . ويشعر بالزيادة بعض الروايات المتقدّمة الدالّة على أنّه إذا تاب ولم يعلم منه إلاّ خير فتقبل شهادته ، وعن الخلاف(3) وجامع المقاصد(4) ومتشابه القرآن لابن شهر آشوب(5) أنّه لابدّ مع التوبة التي هي الاكذاب من ظهور عمل صالح منه وان قلّ .
أقول: الظاهر أنّ عطف قوله: «وَاَصلَحُوا» على «تَابُوا» عطف تفسيري، ولايشترط إصلاح العمل زيادة على التوبة حتى يبحث أنّ الاصلاح بماذا يتحقّق ، والسرّ في هذاالعطف لعلّه إفادة أنّ التوبة في مقام القذف تغايرالتوبة في سائر المقامات; لأنه بالقذف قد أفسد عرض المقذوف ، فاللازم اصلاحه باكذاب النفس إجهاراً
- (1) جواهر الكلام : 41 / 40 .
- (2) شرائع الإسلام : 4 / 912 .
- (3) الخلاف : 6 / 264 مسألة 13 .
- (4) حكى عنه في كشف اللثام : 2 / 372 .
- (5) متشابه القرآن: 2 / 224 .
(الصفحة 414)
على ما عرفت ، فلا يكون الاصلاح زائداً على التوبة الخاصة الثابتة في القذف .
وان أبيت إلاّ عن كون ظاهر العطف المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فنقول : الدليل على عدم المغايرة في خصوص المقام الروايات التي فيها الصحيحة الدالّة على أنّه بمجرّد تحقّق التوبة تقبل شهادة القاذف من دون إضافة الاصلاح ، كصحيحة عبدالله بن سنان ، وامّا قوله (عليه السلام) في بعض الروايات المشار إليها آنفاً «إذا تاب ولم يعلم منه إلاّ خير» فهو لا دلالة فيها بل ولا إشعار على اعتبار أمر زائد على التوبة ، بل المراد صلاحية القاذف التائب للشهادة مع قطع النظر عن جريان قذفه بدأً وختماً ، وهذا هو المراد من قوله : «أصلح» في المتن ، وإلاّ لكان اللازم عدم تأخير قيد الاصلاح عن قبول الشهادة وعطفه على التوبة ، فتدبّر جيّداً ، أو بتعيّن هذا المعنى على تقدير كون المذكور مقيّداً بصلاحه لا إصلاحه ، كما لا يخفى ، وان كان هذا الاحتمال بعيداً في نفسه ، لأن الظاهر كون القيد المذكور انّما هو بتبع الآية الشريفة واقتباساً منها ، وفيها قوله : «وَأصْلحُوا» كما عرفت .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا يعتبر في قبول شهادة القاذف الاّ التي تقدّم حدّها ، ولولا الروايات الواردة في بيانها لقلنا بأنّ التوبة في القذف إنّما هي كالتوبة في سائر الموارد من دون فرق بينها ، لكنّ الروايات قد بيّنت المغايرة في التوبة بين القذف وغيره ، وقد عرفت أنّ قوله : «وَأصْلَحُوا» عطف تفسيري لقوله : «تابوا» لا أمر زائد عليه ، فتدبّر ، كما أنّ ملاحظة عطف الاصلاح على مثل العفو والتوبة في كثير من موارد الكتاب يعطي ذلك ، مثل قوله:
{وَجَزَاؤُا سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}(1) وقوله تعالى :
{فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا
(الصفحة 415)مسألة 3 ـ إتخاذ الحَمام للأُنس وإنفاذ الكتب والاستفراخ والتطيير واللعب ليس بحرام ، نعم اللعب بها مكروه ، فتقبل شهادة المتخذ واللاعب بها ، وأمّا اللعب بالرهان فهو قمار حرام لا تقبل شهادة من فعل ذلك1.
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}(2) وغير ذلك من الموارد فراجع ، فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا من عدم كون الاصلاح أمراً زائداً على التوبة ، كما لا يخفى .
1 ـ انّ في هذه المسألة عناوين ثلاثة: اتخاذ الحمام للأنس ونحوه ، واللعب بها ، واللعب بالرّهان .
امّا الأوّل : فلا دليل على حرمته ولا كراهته ، ويمكن أن يستفاد من دليل عدم حرمة اللعب عدم حرمة الاتخاذ ولا عكس ، كما لا يخفى ، والدليل على عدم حرمة الاتخاذ وعدم كراهته مضافاً إلى الأصل أنّه ربما يستفاد من بعض النصوص استحباب اتخاذها للأُنس أو للصيانة من آفة الجنّ ومثلهما ، ففي النبويّ أنّ رجلا شكا إليه(صلى الله عليه وآله) الوحدة ، فقال : اتخذ زوجاً من حمام(3) .
وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ليس من بيت فيه حمام إلاّ لم يصب أهل ذلك البيت آفة من الجنّ، إنّ سفهاء الجن يعبثون في البيت فيعبثون بالحمام ويدعون الإنسان(4).
وقال عبد الكريم بن صالح : دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فرأيت على فراشه ثلاث حمامات خضر قد ذرقن على الفراش ، فقلت : جعلت فداك هؤلاء الحمام
يقذر الفراش ، فقال : لا ، إنّه يستحب أن يمسكن في البيت(1) .
- (1) الشورى 42: 40 .
- (2) النساء 4: 16 .
- (3) وسائل الشيعة : 11 / 517 ، كتاب الحج ، أبواب أحكام الدّواب ب31 ح15 .
- (4) وسائل الشيعة : 11 / 516 ، كتاب الحج ، أبواب أحكام الدّواب ب31 ح8 .