(الصفحة 524)
ثمّ إن اعترفوا بأنّهم تعمّدوا الكذب فسقوا فلا يعبأ بشهادتهم بعد ذلك ما لم تتحقّق العدالة المعتبرة في الشاهد ، وإن كان يمكن أن يقال : بأنّ الاعتراف بأنّهم تعمّدوا الكذب لا ينافي قبول هذه الشهادة; لأنّ التعمّد بالكذب انّما يتحقّق بتمامية الشهادة ، ضرورة أنّ الصدق والكذب من عوارض الخبر ، وهو متقوّم بالنسبة أو الهوهوية ، وعليه فلا ينافي الاعتراف بالتعمّد مع قبول هذه الشهادة ، نعم له أثر بالإضافة إلى الشهادة بعداً .
وان اعترفوا بالخطأ والاشتباه فلا فسق ، وفي هذه الصورة إذا رجعوا عن الرجوع فهل تقبل فيها الشهادة منهم بعد كون المفروض عدم تحقق الفسق؟ فقد وردت فيها رواية محمد بن قيس الصحيحة ، عن الباقر (عليه السلام) قال : قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق فقطع يده ، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا : هذا السارق وليس الذي قطعت يده ، انّما شبّهنا ذلك بهذا ، فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدّية ، ولم يجز شهادتهما على الآخر(1) .
وقد أفتى بمضمونها في محكيّ القواعد(2) والمسالك(3) ، ولكن في محكي كشف اللثام القبول إذا كانا معروفين بالعدالة والضبط(4) ، ولكنّ الظاهر لزوم العمل على طبق الرواية وان كان على خلاف القاعدة والعمومات لصحتها ، كما عرفت .
ثمّ إنّه لو كان المشهود به هو مثل الزّنا واعترف الشهود بالتعمّد حدّوا للقذف; لما
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 332 ، كتاب الشهادات ب14 ح1 .
- (2) قواعد الأحكام : 2 / 244 .
- (3) مسالك الأفهام : 14 / 297 .
- (4) كشف اللثام : 2 / 387 .
(الصفحة 525)مسألة 9 ـ لو رجعا بعد الحكم والاستيفاء وتلف المشهود به لم ينقض الحكم وعليهما الغرم ، ولو رجعا بعد الحكم قبل الاستيفاء ، فان كان من حدود الله تعالى نقض الحكم ، وكذا ما كان مشتركاً نحو حدّ القذف وحدّ السرقة ، والأشبه عدم النقض بالنسبة إلى سائر الآثار غير الحدّ كحرمة أم الموطوء وأخته وبنته ، وحرمة أكل لحم البهيمة الموطوءة وقسمة مال المحكوم بالرّدة واعتداد زوجته ، ولا ينقض الحكم على الأقوى فيما عدا ما تقدّم من الحقوق ، ولو رجعا بعد الاستيفاء في حقوق الناس لم ينقض الحكم وإن كانت العين باقية
يأتي في كتاب الحدود(1) من أنّ شهود مثل الزنا إذا لم يكن جامعين لشرائط الشهادة عليه حدّوا جميعاً للقذف ، ولو قالوا : غلطنا فعن المبسوط(2) وجواهر القاضي(3)يحدّون أيضاً ، وفي محكيّ المسالك فيه وجهان : أحدهما : المنع لأن الغالط معذور ، وأظهرهماالوجوب لمافيه من التعيير، وكان من حقّهم التثبّت والاحتياط ، وعلى هذا تردّ شهادتهم،ولوقلنا: لاحدّفلاردّ(4)، ويؤيّده مرسلة ابن محبوب،عن أبي عبدالله (عليه السلام)في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ، ثم رجع أحدهم بعدما قتل الرّجل ، قال : إن قال الرابع : أوهمت ضرب الحدّ واغرم الدّية ، وإن قال : تعمّدت قتل(5) ، لكن لا شبهة في أنّ الغالط الغافل معذور، ولا ينبغي الارتياب في سقوط الحدّ مع الشبهة، ولذا يكون مختار المتن عدم ثبوت الحدّ ، والمرسلة غير منجبرة ، فتدبّر جيّداً .
- (1) كتاب الحدود من تفصيل الشريعة : 105 .
- (2) المبسوط : 8 / 10 .
- (3) جواهر الفقه: 1 / 227 مسألة 782.
- (4) مسالك الأفهام : 14 / 297 .
- (5) وسائل الشيعة : 27 / 328 ، كتاب الشهادات ب12 ح1 .
(الصفحة 526)على الأقوى1.
1 ـ وقع التعرّض في هذه المسألة لاُمور مشتركة في كون رجوع الشاهدين بعد الحكم:
الأمر الأوّل : مالو كان الرجوع بعدالحكم والاستيفاءوتلف المشهود به عند المحكوم له بالإتلاف أو بغيره ، وعليهما الغرم في هذه الصورة من دون أن ينتقض الحكم لمرسلة جميل المتقدّمة ، ولموثّقة السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ(عليهم السلام): أنّ النبي(صلى الله عليه وآله)قال: من شهد عندنا ثم غيّر أخذناه بالأوّل وطرحنا الأخير(1).
ورواية هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : كان أمير المؤمنين (عليه السلام)يأخذ بأوّل الكلام دون آخره(2) وفي نسخة الوسائل «لا يأخذ»(3) ، لكنّ الظاهر كما في هامش الوسائل نقلا عن التهذيب الذي هو المصدر هو ما ذكرنا ، مضافاً إلى أنّ سياق الكلام يقتضي ذلك ، كما لا يخفى .
وبالجملة : لا إشكال في أصل الحكم خصوصاً مع قوّة السبب على المباشر .
الأمر الثاني : ما لو كان الرجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء ، فإن كان من حدود الله تعالى محضاً نقض الحكم على المشهور(4); للشبهة الدارئة للحدّ ، وكذا ما كان مشتركاً بين الله تعالى وبين الناس كحدّ القذف وحدّ السرقة ، لاشتراك الجميع في السقوط بعروض الشبهة .
نعم جعل في المتن الأشبه عدم النقض بالنسبة إلى سائر الآثار غير الحدّ; لفرض
- (1) وسائل الشيعة : 27 / 328 ، كتاب الشهادات ب11 ح4 .
- (2) التهذيب : 6 / 310 ح853 .
- (3) وسائل الشيعة : 27 / 216 ، كتاب القضاء ، أبواب آداب القاضي ب4 ح3 .
- (4) رياض المسائل : 9 / 582 ، جواهر الكلام : 41 / 222 .
(الصفحة 527)مسألة 10 ـ إن كان المشهود به قتلا أو جرحاً موجباً للقصاص واستوفي ثم رجعوا فإن قالوا : تعمّدنا اقتصّ منهم ، وإن قالوا : أخطأنا كان عليهم الدية في أموالهم ، وإن قال بعضهم : تعمّدنا وبعضهم : أخطأنا ، فعلى المقرّ بالتعمّد القصاص وعلى المقرّ بالخطأ الدّية بمقدار نصيبه ، ولوليّ الدم قتل المقرّين بالعمد أجمع وردّ الفاضل عن دية صاحبه ، وله قتل بعضهم ويردّ الباقون قدر جنايتهم1.
تمامية الحكم كالأمثلة المذكورة في المتن ، وامّا بالنسبة إلى الحقوق عدا ما تقدّم كالقتل والجرح فقد قوّى فيه عدم النقض ، وان تردّد فيه المحقّق في الشرائع(1) ، والوجه في عدم النقض تمامية الحكم لفرض كون الرجوع بعده وقبل الاستيفاء ، ولا يكون المورد حدّاً حتى يدرأ بالشبهة .
الأمر الثالث : ما لو كان الرجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء في حقوق الناس ، وقد قوّى فيه عدم النقض وإن كانت العين باقية; لأنّه لا وجه للنقض ، وبقاء العين لا دخل له في جواز النقض ، ولكنّ المحكي عن نهاية الشيخ(2) تردّ على صاحبها ولا غرامة على الشهود ، واستدلّ له برواية جميل ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في شاهد الزور قال : إن كان الشيء قائماً بعينه ردّ على صاحبه ، وإن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل(3) .
1 ـ لو كان المشهود به قتلا أو جرحاً موجباً للقصاص ، وقد تحقّق الاستيفاء
- (1) شرائع الإسلام : 4 / 927 .
- (2) النهاية : 336 .
- (3) وسائل الشيعة : 27 / 327 ، كتاب الشهادات ب11 ح2 .
(الصفحة 528)
بعد الحكم مستنداً إلى شهادة الشهود ثم رجعوا بأجمعهم ، فإن قالوا : تعمّدنا ففي المتن اقتصّ منهم ، وظاهره القصاص من الجميع ، وأنّه لا مانع من قتل الأربع بقتل نفس واحدة مثلا ، كما لو اشترك اثنان فما زاد في قتل واحد ، فانّه يجوز الاقتصاص من جميع المشتركين إذا أراد الولي . غاية الأمر أنّه يردّ عليهم ما فضل من دية المقتول ، فيأخذ كلّ واحد ما فضل من ديته ، وفي ذيل المسألة التصريح بذلك .
وإن قالوا : أخطأنا فعليهم الدية في أموالهم; لأنّه شبه عمد والدية فيه على الجاني ، وذكر في كشف اللثام : إنّه لا يثبت بإقرارهم إلاّ أن تصدّقهم العاقلة(1)والوجه فيه أنّه إقرار عليهم لا على أنفسهم ، ولا يقبل إقرار العقلاء إلاّ على أنفسهم ، لكنّ الظاهر أنّ ثبوت الدية عليهم لا لأجل ثبوت الخطأ بل لأجل أنّه لا يعرف التعمّد والخطأ غالباً إلاّ من قبلهم .
وإن قال بعضهم : تعمّدنا وبعضهم : أخطأنا ، فعلى المقرّ بالتعمّد القصاص ، وعلى المقرّ بالخطأ نصيبه من الدّية .
وقد عرفت أنّه في صورة الإقرار بالتعمّد لوليّ الدم قتل المقرّين أجمع وردّ الفاضل عن دية صاحبه ، كما في الشركة على ما تقدّم ، ويدلّ عليه بعض النصوص كموثّقة السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي(عليهم السلام) في رجلين شهدا على رجل أنّه سرق فقطعت يده ، ثمّ رجع أحدهما ، فقال : شبّه علينا ، غرّما دية اليد من أموالهما خاصة . وقال في أربعة شهدوا على رجل أنّهم رأوه مع امرأة يجامعها وهم ينظرون ، فرجم ثم رجع واحد منهم ، قال : يغرم ربع الدية إذا قال : شبّه عليّ ، وإذا
- (1) كشف اللثام: 2 / 387 .