(الصفحة 75)
القول في شروط سماع الدّعوى
وليعلم أنّ تشخيص المدعي والمنكر عرفيّ كسائر الموضوعات العرفيّة ، وليس للشارع الأقدس اصطلاح خاصّ فيهما ، وقد عرِّف بتعاريف متقاربة ، والتعاريف جلّها مربوطة بتشخيص المورد ، كقولهم : إنّه من لو تَرَكَ تُرِكَ ، أو يدّعي خلاف الأصل ، أو من يكون في مقام إثبات أمر على غيره . والأولى الإيكال إلى العرف ، وقد يختلف المدّعي والمنكر عرفاً بحسب طرح الدعوى ومصبّها ، وقد يكون من قبيل التداعي بحسب المصبّ1.
1 ـ قد عرِّف المدّعي بتعاريف :
أحدها : أنّه من لو ترك ترك ، والظاهر أنّ المراد تركه في تلك الدعوى لا مطلقاً ، فلو كان عنده مال للغير وادّعى الردّ يكون مدّعياً; لأنّه لو ترك هذه الدعوى ترك فيها ، فيكون المال باقياً عنده ، ولا ينافي عدم تركه من هذه الجهة .
ثانيها : أنّه من يدّعي خلاف الأصل ، والظاهر أنّ المراد منه أعمّ من الأصل العملي والأمارات المعتبرة شرعاً كاليد ونحوها ، فلو ادعّى داراً تكون في يد المنكر يكون هو مدّعياً; لأنّه يدّعي خلاف الأمارة المعتبرة وهي اليد . وأمّا أصالة عدم
(الصفحة 76)
الملكيّة فهي مشتركة بين المتخاصمين ، كما لايخفى .
ثالثها : من يدّعي خلاف الظاهر أو خلاف الأصل أو الظاهر ، والظاهر أنّ المراد بالظاهر هو الظاهر المعتبر ، فيرجع إلى ما قبله ، والظاهر غير المعتبر لا عبرة به أصلا .
رابعها : من يكون في مقام إثبات أمر على غيره ، وهنا تعاريف اُخر غير ما ذكرنا ، لكنّه ينبغي أن يعلم :
أوّلا : أنّ الشارع الأقدس لا يكون له بالإضافة إليهما اصطلاح خاصّ بصورة الحقيقة الشرعيّة أو المجاز الشرعي; لعدم كون معناهما مستحدثاً بوجه ، بل استعماله إنّما يكون كاستعمال الغير .
وثانياً : أنّ المراد من التعاريف بيان الموارد والمصاديق ، وإلاّ فاللفظان لا إشكال ولا شبهة فيهما من حيث المادّة والهيئة ، ولا اختلاف فيهما من حيث اللغة ، وليسا كلفظ الصعيد المذكور في آية التيمّم المردّد بين خصوص التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض; لاختلاف اللغة في ذلك .
وثالثاً : أنّ المذكور في الروايات بالمقدار الذي تتبّعنا ـ على أنّ بعض الروايات الواردة في قصّة فدك المنقولة في الوسائل والمستدرك قد وردت فيها مادّة المنكر(1)فراجع ـ من ادّعي عليه بدل المنكر حتى في الرواية المعروفة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ففي صحيحة جميل وهشام ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه(2) .
- (1) الوسائل: 27 / 293، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح3، مستدرك الوسائل: 17 / 368، أبواب كيفيّة الحكم ب3 ح5.
- (2) الكافي : 7 / 415 ح1 ، التهذيب : 6 / 229 ح553 ، الوسائل : 27 / 233 ، أبواب كيفية الحكم ب3 ح1 .
(الصفحة 77)مسألة 1 : يشترط في سماع دعوى المدّعي اُمور : بعضها مربوط بالمدّعي . وبعضها بالدعوى . وبعضها بالمدّعى عليه . وبعضها بالمدّعى به .
الأوّل : البلوغ ، فلا تسمع من الطفل ولو كان مراهقاً . نعم لو رفع الطفل المميّز ظلامته إلى القاضي ، فإن كان له وليّ أحضره لطرح الدّعوى ، وإلاّ فأحضر المدّعى عليه ولاية ، أو نصب قيّماً له ، أو وكّل وكيلا في الدعوى ، أو تكفّل بنفسه ، وأحلف المنكر لو لم تكن له بيّنة ، ولو ردّ الحلف فلا أثر لحلف الصغير ، ولو علم الوكيل أو الوليّ صحّة دعواه ، جاز لهما الحلف .
الثاني : العقل، فلاتسمع من المجنون ولو كان أدواريّاً إذا رفع حال جنونه.
الثالث : عدم الحجر لسفه ، إذا استلزم منها التصرّف المالي ، وامّا السفيه قبل الحجر فتسمع دعواه مطلقاً1.
ورابعاً : أولويّة الإيكال إلى العرف كسائر الموضوعات العرفيّة التي لا يكون فيها اصطلاح خاصّ ولو مجازاً .
وخامساً: أنّ الملاك في ذلك طرح الدعوى ومصبّها، وقدعرفت في بعض المسائل السابقة أنّ من عنده الوديعة وقد أدّاها ، لو ادّعى أداء الأمانة وردّها يكون مدّعياً ، ولو قال : بأنّه ليس شيء بعنوان الأمانة لزيد موجوداً عنده يصير منكراً ، فتدبّر .
وسادساً : أنّه قد لا يكون في البين مدّع ومنكر ، بل يتحقّق التداعي بحسب طرح الدعوى ومصبّها ، وسيجيء حكمه إن شاء الله تعالى .
1 ـ قد استدلّ لاعتبار البلوغ في سماع دعوى المدّعي وإن كان مميّزاً مراهقاً بأنّه لا خلاف فيه ، بل الإجماع عليه ، كما ادّعاه بعضهم(1) ، وبأنّ المتبادر من الأدلّة هو
- (1) رياض المسائل : 9 / 236 ، القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 29 .
(الصفحة 78)
البالغ العاقل ، وبما دلّ من الأخبار على أنّه لا يجوز أمر الصبيّ في الشراء حتى يبلغ خمس عشرة سنة(1) ، وبأنّه مسلوب العبارة ، وبأنّه يجري في صورة الشكّ أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى من وجوب السماع ، وقبول البيّنة ، والإقرار ، وسقوطها بالحلف ونحو ذلك .
ولكن يرد على ما ذكر أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد لا حجّة فيه ، مضافاً إلى استبعاد أن يكون مستند المجمعين غير ما ذكر . ودعوى التبادر المذكور ممنوعة . واستفادة اعتبار الرجوليّة في القاضي ـ الذي قد عرفت أنّ فيه خصوصيّتين : عدم الاُنوثيّة وعدم كونه صبيّاً ـ إنّما هو باعتبار ذكر عنوان الرجل في بعض الروايات المرتبطة بشرائط القاضي(2) . وأمّا بالإضافة إلى المتخاصمين فلم يرد مثل ذلك فيهما ، كما لا يخفى .
والأخبار الدالّة على أنّه لا يجوز أمر الصبيّ حتى يصير بالغاً بالبلوغ الشرعيّ(3) ، موردها التصرّفات الماليّة التي يكون هو ممنوعاً عنها ، بل له فيها وليّ كالأب والجدّ وغيرهما ، ولا يشمل غير تلك التصرّفات ، كما إذا ادّعى على شخص أنّه أخذ ما في يده أو غصب دابّته أو نحو ذلك . وكونه مسلوب العبارة لم يقم عليه دليل شرعي ، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه ، وهي شرعيّة عبادات الصبي وعدم كونها تمرينيّة محضة ، كما حقّقناه في القواعد الفقهية(4) .
وعليه فلا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة المذكورة في الذيل الجارية في صورة
- (1) الكافي : 7 / 197 ح1 ، مستطرفات السرائر : 86 ح34 ، الوسائل : 17 / 360 ، أبواب عقد البيع ب14 ح1 .
- (2) تقدّم في «القول في صفات القاضي» مسألة 1 .
- (3) الوسائل : 18 / 410 ـ 412 ، كتاب الحجر ب2 .
- (4) القواعد الفقهيّة : 1 / 341 ـ 356 .
(الصفحة 79)الرابع : أن لا يكون أجنبيّاً عن الدعوى ، فلو ادّعى بدين شخص أجنبيّ على الآخر لم تسمع ، فلابدّ فيه من نحو تعلّق به كالولاية والوكالة ، أو كان المورد متعلّق حقّ له1.
الشكّ وعدم الدليل ، كما لايخفى .
ثم إنّ الدليل على عدم مسلوبيّة العبارة ما أفاده في المتن : من أنّه لو رفع الطفل ظلامته إلى القاضي يجب على القاضي أن يحضر وليّه في صورة وجوده ، ومع عدمه فتجري الأحكام المذكورة في المتن ، فإنّ الظلامة المرفوعة إن كانت معلومة للقاضي ، فرفعها لا يرتبط بمسألة القضاء والمدّعي والمنكر ، وإن كانت غير معلومة ، كما يدلّ عليه استثناء صورة العلم من عدم جواز حلف الولي أو الوكيل ، فمجرّد لزوم إحضار الولي دليل على عدم كونه مسلوب العبارة ، كما لايخفى .
وكيف كان فلم ينهض دليل قويّ على أنّه لا تسمع دعوى الصبيّ المميّز المراهق ، خصوصاً إذا كان واجداً لبعض المزايا والمراتب أيضاً .
وهكذا الحال بالإضافة إلى المجنون غير البالغ سلب العبارة بنظر العرف والعقلاء ، فإنّه لا دليل فيه أيضاً إلاّ الإجماع الذي ادّعاه بعض(1) ولا حجّية فيه .
هذا ، وأمّا السفيه فإن لم يقع محجوراً عليه فتسمع دعواه مطلقاً بلا إشكال ، وإن وقع محجوراً عليه فهو ممنوع من التصرّفات الماليّة فقط لا مطلقاً ، فالشرط الثالث عبارة عن السفيه المحجور إذا استلزم التصرّفات الماليّة الممنوعة .
1 ـ الوجه في اعتبار هذا الشرط انصراف العمومات الدالّة على وجوب الفصل بين المتخاصمين ، والحكم بالقسط والعدل والحقّ عن مثل ذلك ، وفي صورة الشكّ
- (1) رياض المسائل : 9 / 236 .