(الصفحة 15)ومنصب القضاء من المناصب الجليلة الثابتة من قبل الله تعالى للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن قبله للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، ومن قبلهم للفقيه الجامع للشرائط الآتية . ولا يخفى أنّ خطره عظيم . وقد ورد «أنّ القاضي على شفير جهنم» ، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه قال : «ياشريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» (1) ، وعن أبي عبدالله (عليه السلام) : «اتقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» (2) ، وفي رواية «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزّوجلّ فقد كفر» (3) ، وفي «لسان اُخرى القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا
بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما نسب إلى صاحب الجواهر (قدس سره) وبعض آخر(4) . فإنّ المدّعي والمنكر في مثل المثال المذكور ليسا تاركين للمعروف والعاملين بالمنكر ، بل في كمال التعهّد والايمان والعمل بأحكام الإسلام ، غاية الأمر أنّ منشأ ترافعها وتخاصمهما هو اختلاف المجتهدين المقلّدين ، وقد يتّفق الترافع والتنازع في صورة الاشتباه والنسيان ، فيدّعي كلّ من زيد وعمرو ملكيّة الدار التي هي في يد زيد مثلا مع عدم كون عمرو من المريدين لأكل مال الغير والتصرّف فيه بوجه ، بل يعتقد ملكيّته إرثاً مثلا وزيد كذلك ، فيقع الاشتباه وعقيبه التخاصم والتشاجر ، مع أنّ مثل المورد لا يكون داخلا في ذلك الباب أصلا ، نعم قد يقع الادّعاء أو الإنكار مع العلم وعدم الاشتباه ، لكنّه لا يكون تمام مورد القضاء ، كما لايخفى .
- (1) الوسائل : 27 / 17 ، أبواب صفات القاضي ب3 ح2 .
- (2) الوسائل : 27 / 17 ، أبواب صفات القاضي ب3 ح3 .
- (3) الوسائل : 27 / 34 ، أبواب صفات القاضي ب5 ح13 .
- (4) جواهر الكلام : 40 / 38 ـ 39 .
(الصفحة 16)إلى النّار» (1) وعن أبي عبدالله (عليه السلام)قال : «القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار . ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» (2) ولو كان موقوفاً على الفتوى يلحقه خطر الفتوى أيضاً ، ففي الصحيح قال أبو جعفر (عليه السلام) : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (3) .1
1 ـ أقول : أمّا كون القضاء من المناصب الجليلة ، فلا ينبغي الارتياب فيه ، وكذا في كون الأصل ثابتاً لله تبارك وتعالى ، ومن قبله للنبيّ (صلى الله عليه وآله) على ما يقتضيه قوله تعالى في موارد كثيرة ، مثل قوله :
{فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}(4) ، بناءً على أنّ من مصاديقه التنازع والتخاصم المفروض في مورد القضاء ، وقوله تعالى :
{إنَّا أَنْزَلْنا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحقِّ لِتَحكُمَ بَينَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}(5) ، وقوله تعالى :
{وَمَا كَانَ لِمُؤمِن وَلاَ مُؤمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم}(6) ، وقوله تعالى :
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ
- (1) الوسائل: 27 / 228، أبواب آداب القاضي ب12 ح2 .
- (2) الوسائل : 27 / 22 ، أبواب صفات القاضي ب4 ح6 .
- (3) الكافي : 7 / 409 ح2 ، المحاسن : 1 / 326 ح858 ، الوسائل : 27 / 20 ، أبواب صفات القاضي ب4 ح1 .
- (4) سورة النساء 4 : 59 .
- (5) سورة النساء 4 : 105 .
- (6) سورة الأحزاب 33 : 36 .
(الصفحة 17)
وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً}(1) ، وغير ذلك من الموارد .
وقد تقرّر في محلّه أنّ أحد المناصب الثّلاثة التي كانت ثابتة للرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنوّرة هو القضاء كالرسالة والحكومة . وحكومته فيها هو المبدأ والمنبع للحكومة الإسلاميّة المتحقّقة في مملكة ايران بعد فلاح الثورة وتحقّق الانقلاب . وقد ذكر الماتن (قدس سره)في بحث قاعدة لا ضرر أنّها لا تكون مرتبطة بالفقه لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي ، بل النهي عن الضرر والاضرار حكم حكوميّ صادر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) .
وكيف كان فلا إشكال في ذلك ، كما أنّه لا إشكال في ثبوته للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى ثبوت الولاية العامّة لهم مسلّماً ـ الروايات الآتية بعضها الدالّة على جعلهم القضاة والحكّام ، ومن الواضح أنّ جعل القاضي والحاكم لا يتمّ مع عدم صلاحيّتهم للقضاء ، كما لا يخفى .
ثبوت منصب القضاء للفقيه
وأمّا الثبوت للفقيه الجامع للشرائط ، فيدلّ عليه أيضاً روايات دالّة على جعله كذلك ، مثل : مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال ، قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه(2) .
- (1) سورة النساء 4 : 65 .
- (2) الفقيه : 3 / 2 ح1 ، الكافي : 7 / 412 ح4 ، التهذيب : 6 / 219 ح516 ، الوسائل : 27 / 13 ، أبواب صفات القاضي ب1 ح5 .
(الصفحة 18)مسألة 1 : يحرم القضاء بين الناس ، ولو في الأشياء الحقيرة إذا لم يكن من أهله ، فلو لم ير نفسه مجتهداً عادلا جامعاً لشرائط الفتيا والحكم حرم عليه تصدّيه ، وإن اعتقد الناس أهليّته . ويجب كفاية على أهله ، وقد يتعيّن إذا لم يكن في البلد أو ما يقرب منه ممّا لا يتعسّر الرفع إليه من به الكفاية1.
مسألة 2 : لا يتعيّن القضاء على الفقيه إذا كان من به الكفاية ، ولو اختاره المترافعان أو النّاس2.
ومقبولة عمر بن حنظلة : اُنظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم الله قد استخفّ ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله(1) .
وامّا كون خطره عظيماً فيكفي فيه الروايات التي أشار إليها في المتن ، وكذا خطر الفتوى إذا كان القضاء موقوفاً عليها ، ولكنّها مختلفة من حيث المفاد من جهة كون المقصود التحاكم إلى الطاغوت وقضاة الجور ، ومن جهة كون المحكوم به غير حقّ ، ومن جهة جهل القاضي وعلمه بالحقّ ، ومن جهات اُخر ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد بوصيّ النبيّ الأعمّ منه ومن منصوبه الخاصّ أو العام . كما أن المراد بالكفر هي شدّة مرتبة العصيان لا الكفر الحقيقي المساوق للارتداد . فراجع الرّوايات في هذا الباب .
1 و 2 ـ يقع الكلام في هاتين المسألتين في اُمور :
الأمر الأوّل : الدليل على وجوب القضاء لمن كان من أهله ، وربّما يستدلّ عليه بوجوه :
- (1) الكافي : 7 / 412 ح5 .
(الصفحة 19)
أحدها : مثل قوله تعالى :
{يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النّاس بِالحقِّ وَلاَ تَتَّبِع الهَوَى}(1) نظراً إلى ظهور الأمر في الوجوب ، مع أنّه يمكن أن يكون في مقام توهّم الخطر ، وصيغة افعل وأمثالها في هذا المقام لا دلالة لها على الوجوب ، بل على الجواز كما قرّر في محلّه . مع أنّ إيجاب الحكم على تقديره متفرّع على جعله تعالى داود خليفة في الأرض ـ ومن الواضح أنّ هذه الخلافة التشريعيّة غير الخلافة التكوينيّة الثابتة للعموم ـ ومورداً لاعتراض الملائكة بقولهم :
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}(2) ، ومن الواضح أنّ الخلافة التشريعيّة لا تتجاوز عن الأنبياء والأوصياء ، مضافاً إلى أنّ التفريع إنّما هو بالإضافة إلى الحكم بالحق لا أصل الحكم ، فمثل هذه الآية لا دلالة لها على وجوب القضاء على الفقيه الجامع للشرائط ، وإن رأى نفسه كذلك واعتقده الناس .
ثانيها : اختلال النظام بدونه ، ويرد عليه :
أوّلا : أنّ اللازم بناءً على ذلك كون القضاء في رديف الواجبات النظاميّة ، مثل النّجارة والبناية وغيرهما . وعرف المتشرّعة يأباه .
وثانياً : أنّ الواجب في هذا الباب هو حفظ النظام ، والاُمور المقدّميّة لا تتلبّس بالوجوب ، بعد عدم ثبوت الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوبها ، كما قد قرّر في علم الاُصول . ومجرّد لزوم المقدّمة عقلا لايستلزم ثبوت الملازمة .
وثالثاً : أنّه يمكن إحقاق الحقوق بطريق آخر غير القضاء ، ولزوم تضييع الحقوق أزيد من القضاء ممنوع .
- (1) سورة ص 38 : 26 .
- (2) سورة البقرة 2 : 30 .