(الصفحة 183)
الاُمور المسلّمة أنّ العلّة المنصوصة قد تقتضي توسعة دائرة الحكم وثبوته في جميع موارد العلّة ، وقد تقتضي التضييق واختصاص الحكم بمورد ثبوتها ، وقد تقتضي كليهما معاً ، فقوله: لا تأكل الرمّان لأنّه حامض . كما أنّه يوجب عموم دائرة الحكم وشمولها لكلّ حامض وإن لم يكن رمّاناً ، كذلك يقتضي تقييد دائرة الحكم وتخصيصها بخصوص الحامض من الرمان ، وعدم شمولها للرمان غير الحامض بل الحلو . وقد سولك هذا المنهج في موارد متعدّدة متكثّرة ، منها باب الاستصحاب في علم الأصول ، حيث إنّ الدليل على جريانه في جميع موارد الشكّ واليقين ما ورد من صحاح زرارة في باب الوضوء وطهارة اللباس والشكّ في عدد ركعات الصلاة مشتملة على التعليل ، بأنّه «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً»(1) ، فإنّه قد استفيد منها حكم كلّي في باب الاستصحاب .
وينبغي أن يعلم أنّ العلل المنصوصة قد تكون كما هو الغالب أموراً واقعيّة تكوينية معلومة عند المخاطب ، وقد تكون أموراً تعبّدية لا يعرفها المخاطب بوجه. فقوله: «لا تشرب الخمر لأنّها مسكرة» إنّما يكون من قبيل الأوّل ، وما ورد في الاستصحاب من قوله (عليه السلام): «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» من قبيل الثاني; لعدم كون الاستصحاب أمارة عقلائيّة ولا أصلا كذلك .
وممّا ذكرنا يظهر الفرق بين مقام التعليل ومقام الاستشهاد بالكتاب أو بقول الرسول مثلا ، فإنّه لابدّ في الثاني من أن يكون الكلام ظاهراً فيه عند العرف مع
- (1) التهذيب: 1 / 8 ح8 وص421 ح1335 وج2 / 186 ح740 ، الإستبصار: 1 / 183 ح641 وص373 ح1416 ، الكافي: 3 / 351 ح3 ، الوسائل: 1 / 245 ، أبواب نواقض الوضوء ب1 ح1. وج3 / 466 ، أبواب النجاسات ب37 ح1 وص477 ب41 ح1 وص482 ب44 ح1. وج8 / 216 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب10 ح3 .
(الصفحة 184)
قطع النظر عن الاستشهاد ، ولا يلزم في الأوّل ذلك على ما عرفت .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ قوله (عليه السلام) في مقام لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة في رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله المتقدّمة: لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو غير بيّنة قبل الموت(1) هل يكون بمنزلة التعليل الموجب للتوسعة والتضييق ، كما في قوله: لا تأكل الرمّان لأنّه حامض على ما مرّ ، أو أنّه علّة ولا يكون الحكم دائراً مدارها؟ كما في المحكيّ عن مستند النراقي ، نظراً إلى أنّ العلل الشرعيّة معرّفات لا ينتفي المعلول بانتفائها، فإنّه قد يكون وجود العلّة في بعض الأفراد علّة للحكم في الجميع ، مع أنّ التعليل كما قيل يمكن أن يكون من باب إبداء النكتة والتمثيل ، فإنّ احتمال الإبراء أيضاً قائم ، وكذا احتمال نسيان المقرّ للايفاء وتذكّره لو كان حيّاً حين الدعوى ، ولذا قوّى بعض فضلائنا المعاصرين الضمّ لإطلاق النصّ ، وهو حسن ، إلاّ أنّ فيه: أنّ النصّ معارض بأخبار اُخر واردة في إقرار المريض ، وفي الوصيّة بالدين كصحيحة منصور، عن رجل أوصى لبعض ورثته أنّ له عليه ديناً؟ فقال: إن كان الميّت مرضيّاً فأعطه الذي أوصى له(2) .
وصحيحة أبي ولاّد، عن رجل مريض أقرّ عند الموت لوارث بدين له عليه؟ قال: يجوز ذلك (3) .
ورواية السكوني: في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان لأحدهما عندي ألف
- (1) تقدّمت في ص169 .
- (2) الكافي: 7 / 41 ح2 ، التهذيب: 9 / 159 ح656 ، الاستبصار: 4 / 111 ح426 ، الفقيه: 4/170 ح594 ، الوسائل: 19/ 291 ، كتاب الوصايا ب16 ح1. وج23 / 183 ، كتاب الإقرار ب1 ح1 .
- (3) الكافي: 7 / 42 ح5 ، التهذيب: 9 / 160 ح660 ، الإستبصار: 4 / 112 ح430 ، الوسائل: 19/ 292 ، كتاب الوصايا ب16 ح4 .
(الصفحة 185)
درهم ، ثمّ مات على تلك الحال ، فقال: أيّهما أقام البيّنة فله المال ، وإن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان(1) .
ومكاتبة الصهباني: امرأة أوصت إلى رجل وأقرّت له بدين ثمانية آلاف درهم ـ إلى أن قال: ـ فكتب (عليه السلام) بخطّه: إن كان الدين صحيحاً معروفاً مفهوماً ، فيخرج الدين من رأس المال(2) إلى غير ذلك ـ من الروايات الواردة في هذا المجال المذكورة في كتاب الإقرار وكتاب الوصايا من الوسائل ـ فإنّ هذه الأخبار شاملة لصورة عدم حلف المقرّ له أيضاً ، فيتعارض مع ما مرّ بالعموم من وجه ، وإذ لا ترجيح فيرجع إلى القاعدة المتقدّمة المكتفية للمدّعي بالبيّنة ، وهو الأصحّ(3) ، انتهى .
ويرد عليه:
أوّلا: وضوح أنّ التعليل يقتضي التوسعة والتضييق ، ولم يقم دليل على أنّ العلل الشرعيّة معرّفات ، لا يكاد ينتفي المعلول بانتفائها ، وإلاّ لا يكون لذكر التعليل فائدة كما لايخفى .
وثانياً: أنّ المذكور في رواية عبدالرحمن المتقدّمة هو التعليل بلحاظ الاشتمال على كلمة لام التعليل ، واحتمال الإبراء وإن كان يقوم مقام احتمال الإيفاء ، إلاّ أنّ مرجع ذلك إلى التوسعة في دائرة العلّة بلحاظ المتفاهم العرفي ، وأنّ العلّة لا تكون خصوص احتمال الإيفاء ، بل الأعم منها ومن الإبراء وكلّ مسقط للدين ، ولا منافاة
- (1) الكافي: 7 / 58 ح5 ، الفقيه: 4 / 174 ح610 ، التهذيب: 9 / 162 ح666 ، الوسائل: 19/ 323 ، كتاب الوصايا ب25 ح1. وج23 / 184 ، كتاب الإقرار ب2 ح1 .
- (2) التهذيب: 9 / 161 ح664 ، الإستبصار: 4 / 113 ح433 ، الوسائل: 19/ 294 ، كتاب الوصايا ب16 ح10 .
- (3) مستند الشيعة: 2 / 562 (ط ق) .
(الصفحة 186)
بين سعة دائرة العلّة وبين المعمّمية والمخصّصية، كما هو ظاهر .
وثالثاً: أنّ ما أفاده من التعارض بين روايات المقام وبين الروايات الواردة في باب إقرار المريض أو وصيته غير صحيح . فإنّ مورد روايات المقام صورة وجود المدّعي ، ومورد تلك الروايات صورة الإقرار أو الوصية من دون أن يكون هناك مدعّ أصلا . ومحطّ النظر فيها هو أنّ المريض المشرف على الموت هل يصحّ منه الإقرار بدين عليه أو الوصية بذلك أم لا؟ وأين هذا من المقام .
ورابعاً: أنّه على فرض التعارض لم يعلم وجه كون التعارض بالعموم والخصوص من وجه ، فإنّ التعارض مع هذه النسبة إنّما هو فيما إذا كان بين العنوانين تعارض كذلك، مع قطع النظر عن الحكم المتعلّق بهما; كالتعارض بين عنواني العلماء والفسّاق في قوله: أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق; لاجتماع العنوانين في العالم الفاسق . وأمّا في مثل المقام فلو فرض التعارض البدوي ، فإنّما يكون هو التعارض بالإطلاق والتقييد ، واللاّزم تقييد إطلاقات تلك الروايات بسبب روايات المقام .
والتحقيق بمقتضى ما ذكرنا عدم لزوم ضمّ اليمين في مفروض هذا الفرع; لأنّه بعد شهادة البيّنة بالإقرار قبل الموت ، والفرض عدم كون الزمان الباقي إلى الموت ظرفاً للاستيفاء عادة ، واللاّزم فرض العلم بعدم تحقق مثل الإبراء ، فلا يكون التعليل المذكور في الرواية مقتضياً للزوم ضمّ اليمين هنا; للعلم عادة بعدم تحقّق الموجب لسقوط الدين من الإيفاء ومثله .
وممّا ذكرنا يظهر عدم لزوم الضمّ في كلّ مورد يعلم بالبقاء على فرض الثبوت . نعم فيما إذا قامت البيّنة على بقاء الدين إلى حين الموت ، يكون الخروج وعدم لزوم الضم لا للتعليل المذكور فيها ، بل لما استفدنا منها من أنّ البيّنة التي أُقيمت على المطلوب بالحقّ هي البيّنة على أصل الاشتغال، كما عرفت .
(الصفحة 187)الثالث: لو تعدّدت ورثة الميّت ، فادّعى شخص عليه وأقام البيّنة ، تكفي يمين واحدة ، بخلاف تعدّد ورثة المدّعي كما مرّ1.
الرابع: اليمين للاستظهار لابدّ وأن تكون عند الحاكم ، فإذا قامت البيّنة عنده وأحلفه ثبت حقّه ، ولا أثر لحلفه بنفسه أو عند الوارث2.
1 ـ قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الملاك في تعدّد اليمين هو تعدّد ورثة المدّعي ، لا تعدّد ورثة المدّعى عليه; لأنّ المطلوب بالحقّ هو الميت ، وكلّ واحد من ورثة المدّعي يقوم مقامه مستقلاًّ بالإضافة إلى مقدار حقّه ، ويشمله قوله (عليه السلام): وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات(1)، فيلزم الحلف مضافاً إلى البيّنة . وقد عرفت أنّ إقامة البيّنة على مجموع الدين من واحد من الورثة كاف ، بخلاف اليمين فإنّه لابدّ لكلّ واحد منهم ضمّها بمقدار حقّه . وأمّا تعدّد ورثة الميّت فلا دخل له في ذلك ، إذ ليس البحث في يمين المدّعى عليه أصلا ، كما لا يخفى .
2 ـ الظاهر لزوم كون اليمين للاستظهار عند الحاكم الذي تقام البيّنة عنده ، فكما أنّه لا تجوز إقامة البيّنة عند غير الحاكم ، كذلك لا يجوز الحلف بنفسه أو عند الوارث أو عند حاكم آخر; لأنّه دخيل في حكم الحاكم وفصل خصومته كيمين المدّعى عليه في مواردها ، ويؤيّده التعبير بالمعيّة والانضمام إلى البيّنة في الروايات المتقدّمة ، وعدم التصريح بهذه الجهة فيها لعلّه لكونها في مقام بيان أصل الحاجة إلى اليمين تقييداً لقول الرسول (صلى الله عليه وآله): البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه(2)، مع أنّ مقتضى الأصل عدم التأثير عند غير الحاكم ، فتدبّر جيّداً .
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 236، أبواب كيفيّة الحكم ب4 ح1.
- (2) الوسائل: 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 .