(الصفحة 188)الخامس: اليمين للاستظهار غير قابلة للإسقاط ، فلو أسقطها وارث الميّت لم تسقط ، ولم يثبت حقّ المدّعي بالبيّنة بلا ضمّ الحلف1.
1 ـ لم يقم دليل على أنّ اليمين المنضمّة إلى البيّنة في أصل المسألة من الحقوق المرتبطة بوارث الميّت ، وتكون قابلة للإسقاط، بل مقتضى الدليل توقّف ثبوت حقّ المدّعي على ضمّ اليمين مطلقاً ، فكما أنّه لا يثبت حقّه بدون إقامة البيّنة ، كذلك لا يثبت من دون ضمّ اليمين ، سواء أسقط الوارث أم لا كما في الشاهد الواحد واليمين ، كما لايخفى .
نعم إذا رضي المدّعي بإسقاط بعض حقّه وأخذ الباقي بدون الحلف ، جاز مع موافقة الورثة، لكن هذا يرجع إلى المصالحة ولا يرتبط بالقضاء .
(الصفحة 189)
القول في الشاهد واليمين
مسألة 1: لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد ويمين المدّعي ، كما لا إشكال في عدم الحكم والقضاء بهما في حقوق الله تعالى ، كثبوت الهلال وحدود الله ، وهل يجوز القضاء بهما في حقوق الناس كلّها حتى مثل النسب والولاية والوكالة ، أو يجوز في الأموال وما يقصد به الأموال كالغصب والقرض والوديعة ، وكذا البيع والصلح والإجارة ونحوها؟ وجوه: أشبهها الاختصاص بالديون ، ويجوز القضاء في الديون بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي1.
1 ـ
أقول: في هذه المسألة أمور:
الأمر الأوّل: أنّه لا إشكال في أصل جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد ويمين المدّعي، استناداً إلى المقطوع به من قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقضاء عليّ (عليه السلام)بعده على ما رواه العامّة والخاصّة في كتبهم الروائيّة ، مثل سنن البيهقي والوسائل ، ووافقنا عليه أكثر العامّة خلافاً لأبي حنيفة وأتباعه(1) ، وقد قال للصادق (عليه السلام): كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد؟ فقال الصادق (عليه السلام): قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقضى به عليّ (عليه السلام) عندكم . فضحك أبو حنيفة ، فقال له الصادق (عليه السلام): أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة، فقال : ما نفعل ، فقال: بلى تشهد مائة فترسلون واحداً يسأل
- (1) الخلاف: 6 / 274 ـ 279 مسألة 23 .
(الصفحة 190)
عنهم ، ثمّ تجيزون شهادتهم بقوله(1) .
وفي صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) ، فسألاه عن شاهد ويمين ، فقال: قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقضى به عليّ (عليه السلام) عندكم بالكوفة ، فقالا: هذا خلاف القرآن ، فقال: وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ قالا: إنّ الله يقول:
{وأشهِدُوا ذَوَي عَدل مِنكُم}(2) فقال لهما أبو جعفر (عليه السلام): قول الله:
{وأشهِدوا ذَوَي عَدل مِنكُم} هو أن لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً ، ثمّ قال: إنّ عليّاً (عليه السلام)كان قاعداً في مسجد الكوفة ، فمرّ به عبدالله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أخذت غلولا(3) يوم البصرة ، فقال له عبدالله بن قفل: أجل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين ، فجعل بينه وبينه شريحاً .
فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة ، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة ، فأتاه بالحسن (عليه السلام) فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة ، فقال شريح: هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر ، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة . فقال شريح: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك .
قال: فغضب عليّ (عليه السلام)وقال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات . قال: فتحوّل شريح وقال: لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات؟ فقال له: ويلك ـ أو ويحك ـ إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أُخذت غلولا
- (1) التهذيب: 6 / 296 ح826 ، الوسائل: 27 / 268 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح13 .
- (2) سورة الطلاق: 65/2 .
- (3) الغلولة: السرقة قبل تقسيم الغنيمة ، المؤلّف .
(الصفحة 191)
يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة . وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة ، فقلت: رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة .
ثمّ أتيتك بالحسن (عليه السلام) فشهد ، فقلت: هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله)بشهادة واحد ويمين، فهذه ثنتان . ثمّ أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة ، فقلت: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك ، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا . ثمّ قال: ويلك ـ أو ويحك ـ إنّ إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا(1) .
قال صاحب الجواهر (قدس سره): وكان اقتصاره (عليه السلام) على خطئه ثلاثاً في هذه القضية على فهم شريح القاضي ، وإلاّ فهو مخطئ من وجوه اُخر أيضاً قد أشار (عليه السلام) إلى بعضها ، وبذلك ظهر لك حال قاضيهم وحال الفقيهين لهم الحَكَم وسَلَمَة ، وحال إمامهم الأعظم أبي حنيفة وسوء أدبه(2) .
وبالجملة قد ظهر لك في هذا الأمر أنّه لا شبهة في جواز القضاء بالشاهد واليمين في الجملة .
الأمر الثاني: في أنّه هل يختصّ جواز القضاء بالشاهد واليمين بالدين الذي يأتي معناه في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى ، وهو الحقّ الكلّي الماليّ المتعلّق بالذمّة مثليّاً كان أو قيميّاً ، كما عليه الماتن (قدس سره) تبعاً للنهاية والاستبصار(3) والغنية(4)
- (1) الكافي: 7 / 385 ح5 ، الفقيه: 3 / 63 ح313 ، التهذيب: 6 / 273 ح747 ، الإستبصار: 3 / 34 ح117 ، الوسائل: 27/ 265 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح6 .
- (2) جواهر الكلام: 40 / 270 .
- (3) النهاية: 334 ، الإستبصار: 3 / 33 ـ 35 .
- (4) الغنية: 439 .
(الصفحة 192)
والمراسم(1) والإصباح(2) والكافي(3) ، بل في الغنية الإجماع عليه ، أو يعمّ مطلق الحقوق الماليّة أعمّ ممّا إذا كان بنفسه مالا وما إذا كان المقصود منه المال، كما عليه المشهور من الأصحاب(4) ، أو يعمّ مطلق حقوق الناس أعمّ من أن يكون مالا أو غيره حتى القصاص والوصاية والنسب والولاية، فلا يشمل فقط مثل الشهادة على الهلال ، الذي لا وجه للحلف عليه ـ من حيث أنّه كذلك ـ من أحد ، وكذا كلّ ما لم تشرع اليمين فيه مثل حقوق الله تعالى ، التي هي أيضاً لا دعوى لأحد بالخصوص فيها ، كما لعلّه يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) خصوصاً بعد جعل الضابط أنّ كلّ ما تشرع فيه ردّ يمين الإنكار على المدّعي يشرع فيه الشاهد واليمين; لأنّ الظاهر كون هذه اليمين يمين المنكر صارت للمدّعي الذي له شاهد(5) .
هذا، وقد قال المحقّق في الشرائع في هذا المجال: ويثبت الحكم بذلك في الأموال: كالدين والقرض والغصب ، وفي المعاوضات: كالبيع والصرف والصلح والإجارة والقراض والهبة والوصية له ، والجناية الموجبة للدية: كالخطأ وعمد الخطأ وقتل الوالد ولده ، والحرّ العبد ، وكسر العظام والجائفة والمأمومة . وضابطه ما كان مالا أو المقصود منه المال ، وفي النكاح تردّد ، أمّا الخلع والطلاق والرجعة والعتق والتدبير والكتابة والنسب والوكالة والوصية إليه وعيوب النساء فلا ، وفي الوقف إشكال منشأه النظر إلى من ينتقل إليه ، والأشبه القبول ، لانتقاله إلى الموقوف
- (1) المراسم: 234 .
- (2) إصباح الشيعة: 528 .
- (3) الكافي في الفقه: 438 .
- (4) مفتاح الكرامة: 10 / 137 ، رياض المسائل: 9 / 340 ـ 341 ، كشف اللثام: 2 / 344 (ط ق) .
- (5) جواهر الكلام: 40 / 274 .