(الصفحة 186)
بين سعة دائرة العلّة وبين المعمّمية والمخصّصية، كما هو ظاهر .
وثالثاً: أنّ ما أفاده من التعارض بين روايات المقام وبين الروايات الواردة في باب إقرار المريض أو وصيته غير صحيح . فإنّ مورد روايات المقام صورة وجود المدّعي ، ومورد تلك الروايات صورة الإقرار أو الوصية من دون أن يكون هناك مدعّ أصلا . ومحطّ النظر فيها هو أنّ المريض المشرف على الموت هل يصحّ منه الإقرار بدين عليه أو الوصية بذلك أم لا؟ وأين هذا من المقام .
ورابعاً: أنّه على فرض التعارض لم يعلم وجه كون التعارض بالعموم والخصوص من وجه ، فإنّ التعارض مع هذه النسبة إنّما هو فيما إذا كان بين العنوانين تعارض كذلك، مع قطع النظر عن الحكم المتعلّق بهما; كالتعارض بين عنواني العلماء والفسّاق في قوله: أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق; لاجتماع العنوانين في العالم الفاسق . وأمّا في مثل المقام فلو فرض التعارض البدوي ، فإنّما يكون هو التعارض بالإطلاق والتقييد ، واللاّزم تقييد إطلاقات تلك الروايات بسبب روايات المقام .
والتحقيق بمقتضى ما ذكرنا عدم لزوم ضمّ اليمين في مفروض هذا الفرع; لأنّه بعد شهادة البيّنة بالإقرار قبل الموت ، والفرض عدم كون الزمان الباقي إلى الموت ظرفاً للاستيفاء عادة ، واللاّزم فرض العلم بعدم تحقق مثل الإبراء ، فلا يكون التعليل المذكور في الرواية مقتضياً للزوم ضمّ اليمين هنا; للعلم عادة بعدم تحقّق الموجب لسقوط الدين من الإيفاء ومثله .
وممّا ذكرنا يظهر عدم لزوم الضمّ في كلّ مورد يعلم بالبقاء على فرض الثبوت . نعم فيما إذا قامت البيّنة على بقاء الدين إلى حين الموت ، يكون الخروج وعدم لزوم الضم لا للتعليل المذكور فيها ، بل لما استفدنا منها من أنّ البيّنة التي أُقيمت على المطلوب بالحقّ هي البيّنة على أصل الاشتغال، كما عرفت .
(الصفحة 187)الثالث: لو تعدّدت ورثة الميّت ، فادّعى شخص عليه وأقام البيّنة ، تكفي يمين واحدة ، بخلاف تعدّد ورثة المدّعي كما مرّ1.
الرابع: اليمين للاستظهار لابدّ وأن تكون عند الحاكم ، فإذا قامت البيّنة عنده وأحلفه ثبت حقّه ، ولا أثر لحلفه بنفسه أو عند الوارث2.
1 ـ قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الملاك في تعدّد اليمين هو تعدّد ورثة المدّعي ، لا تعدّد ورثة المدّعى عليه; لأنّ المطلوب بالحقّ هو الميت ، وكلّ واحد من ورثة المدّعي يقوم مقامه مستقلاًّ بالإضافة إلى مقدار حقّه ، ويشمله قوله (عليه السلام): وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات(1)، فيلزم الحلف مضافاً إلى البيّنة . وقد عرفت أنّ إقامة البيّنة على مجموع الدين من واحد من الورثة كاف ، بخلاف اليمين فإنّه لابدّ لكلّ واحد منهم ضمّها بمقدار حقّه . وأمّا تعدّد ورثة الميّت فلا دخل له في ذلك ، إذ ليس البحث في يمين المدّعى عليه أصلا ، كما لا يخفى .
2 ـ الظاهر لزوم كون اليمين للاستظهار عند الحاكم الذي تقام البيّنة عنده ، فكما أنّه لا تجوز إقامة البيّنة عند غير الحاكم ، كذلك لا يجوز الحلف بنفسه أو عند الوارث أو عند حاكم آخر; لأنّه دخيل في حكم الحاكم وفصل خصومته كيمين المدّعى عليه في مواردها ، ويؤيّده التعبير بالمعيّة والانضمام إلى البيّنة في الروايات المتقدّمة ، وعدم التصريح بهذه الجهة فيها لعلّه لكونها في مقام بيان أصل الحاجة إلى اليمين تقييداً لقول الرسول (صلى الله عليه وآله): البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه(2)، مع أنّ مقتضى الأصل عدم التأثير عند غير الحاكم ، فتدبّر جيّداً .
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 236، أبواب كيفيّة الحكم ب4 ح1.
- (2) الوسائل: 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 .
(الصفحة 188)الخامس: اليمين للاستظهار غير قابلة للإسقاط ، فلو أسقطها وارث الميّت لم تسقط ، ولم يثبت حقّ المدّعي بالبيّنة بلا ضمّ الحلف1.
1 ـ لم يقم دليل على أنّ اليمين المنضمّة إلى البيّنة في أصل المسألة من الحقوق المرتبطة بوارث الميّت ، وتكون قابلة للإسقاط، بل مقتضى الدليل توقّف ثبوت حقّ المدّعي على ضمّ اليمين مطلقاً ، فكما أنّه لا يثبت حقّه بدون إقامة البيّنة ، كذلك لا يثبت من دون ضمّ اليمين ، سواء أسقط الوارث أم لا كما في الشاهد الواحد واليمين ، كما لايخفى .
نعم إذا رضي المدّعي بإسقاط بعض حقّه وأخذ الباقي بدون الحلف ، جاز مع موافقة الورثة، لكن هذا يرجع إلى المصالحة ولا يرتبط بالقضاء .
(الصفحة 189)
القول في الشاهد واليمين
مسألة 1: لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد ويمين المدّعي ، كما لا إشكال في عدم الحكم والقضاء بهما في حقوق الله تعالى ، كثبوت الهلال وحدود الله ، وهل يجوز القضاء بهما في حقوق الناس كلّها حتى مثل النسب والولاية والوكالة ، أو يجوز في الأموال وما يقصد به الأموال كالغصب والقرض والوديعة ، وكذا البيع والصلح والإجارة ونحوها؟ وجوه: أشبهها الاختصاص بالديون ، ويجوز القضاء في الديون بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي1.
1 ـ
أقول: في هذه المسألة أمور:
الأمر الأوّل: أنّه لا إشكال في أصل جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد ويمين المدّعي، استناداً إلى المقطوع به من قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقضاء عليّ (عليه السلام)بعده على ما رواه العامّة والخاصّة في كتبهم الروائيّة ، مثل سنن البيهقي والوسائل ، ووافقنا عليه أكثر العامّة خلافاً لأبي حنيفة وأتباعه(1) ، وقد قال للصادق (عليه السلام): كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد؟ فقال الصادق (عليه السلام): قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقضى به عليّ (عليه السلام) عندكم . فضحك أبو حنيفة ، فقال له الصادق (عليه السلام): أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة، فقال : ما نفعل ، فقال: بلى تشهد مائة فترسلون واحداً يسأل
- (1) الخلاف: 6 / 274 ـ 279 مسألة 23 .
(الصفحة 190)
عنهم ، ثمّ تجيزون شهادتهم بقوله(1) .
وفي صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج قال: دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) ، فسألاه عن شاهد ويمين ، فقال: قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقضى به عليّ (عليه السلام) عندكم بالكوفة ، فقالا: هذا خلاف القرآن ، فقال: وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ قالا: إنّ الله يقول:
{وأشهِدُوا ذَوَي عَدل مِنكُم}(2) فقال لهما أبو جعفر (عليه السلام): قول الله:
{وأشهِدوا ذَوَي عَدل مِنكُم} هو أن لا تقبلوا شهادة واحد ويميناً ، ثمّ قال: إنّ عليّاً (عليه السلام)كان قاعداً في مسجد الكوفة ، فمرّ به عبدالله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أخذت غلولا(3) يوم البصرة ، فقال له عبدالله بن قفل: أجل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين ، فجعل بينه وبينه شريحاً .
فقال علي (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة ، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة ، فأتاه بالحسن (عليه السلام) فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة ، فقال شريح: هذا شاهد واحد ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر ، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة . فقال شريح: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك .
قال: فغضب عليّ (عليه السلام)وقال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات . قال: فتحوّل شريح وقال: لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات؟ فقال له: ويلك ـ أو ويحك ـ إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أُخذت غلولا
- (1) التهذيب: 6 / 296 ح826 ، الوسائل: 27 / 268 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح13 .
- (2) سورة الطلاق: 65/2 .
- (3) الغلولة: السرقة قبل تقسيم الغنيمة ، المؤلّف .