(الصفحة 193)
عليهم(1) ، انتهى .
أقول: في هذا المجال طوائف ثلاث من الروايات:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على القضاء بهما في مطلق حقوق الناس مثل:
صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد ، إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس ، فأمّا ما كان من حقوق الله عزّوجلّ أو رؤية الهلال فلا(2) .
وهذه الرواية مضافاً إلى كونها صحيحة من حيث السند ظاهرة الدلالة على التعميم ، وأنّه يجزي الشاهد واليمين في جميع حقوق الناس لاقتضاء التعبير بالعموم والمقابلة ذلك ودونها في الظهور .
ورواية اُخرى لمحمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين ، ولم يجز في الهلال إلاّ شاهدي عدل(3) .
فإنّ مقتضى المقابلة كون الدين شاملا لجميع حقوق الناس الماليّة وغيرها .
الطائفة الثانية: الروايات المطلقة الحاكية لفعل الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) ، والحاكي لفعلهما وإن كان هو الإمام (عليه السلام) في مقام بيان الحكم الشرعي ، وفي هذه الصورة يجوز التمسّك بإطلاق كلام الحاكي ، إلاّ أنّه فيما إذا كانت شرائط التمسّك بالإطلاق
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 881 .
- (2) التهذيب: 6 / 273 ح746 ، الإستبصار: 3 / 33 ح116 ، الفقيه: 3/330 ح104 ، الوسائل: 27/ 268 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح12 .
- (3) الكافي: 7 / 386 ح8 ، التهذيب: 6 / 272 ح740 ، الإستبصار: 3 / 32 ح108 ، الوسائل: 27/ 264 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح1 .
(الصفحة 194)
ومقدّمات الحكمة ـ التي يكون أتمّها كون المولى المتكلّم في مقام البيان لا الإهمال والإجمال ـ موجودة ، وفي هذه الروايات لا يكون كذلك; لأنّ الغرض العمدة ـ كما يظهر من الروايات ومن مخالفة أبي حنيفة وأتباعه ـ إثبات جواز القضاء بالشاهد واليمين في الجملة لا إطلاق هذا الأمر ، وهذه الروايات مثل:
رواية منصور بن حازم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ(1) .
ورواية أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أجاز رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادة شاهد مع يمين طالب الحقّ ، إذا حلف أنّه الحقّ(2) .
ورواية عباد بن صهيب ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، عن جابر بن عبدالله قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ، فأمره أن يأخذ باليمين مع الشاهد(3) .
وغير ذلك من الروايات الحاكية لفعله (صلى الله عليه وآله) أو فعل عليّ (عليه السلام) .
الطائفة الثالثة: ما ورد في خصوص القضاء بهما في الأموال ، وهي الرواية الوحيدة المرسلة عن ابن عبّاس: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: استشرت جبرئيل (عليه السلام)في القضاء باليمين مع الشّاهد ، فأشار عليّ بذلك في الأموال لا تعدو ذلك(4) .
وقال صاحب الجواهر بعد نقله: ولكن ليس هو من طرقنا ، ولا معروف النقل
- (1) الكافي 7 / 385 ح4 ، التهذيب: 6 / 272 ح741 ، الإستبصار: 3 / 32 ح108 ، الوسائل: 27/ 264 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح2 .
- (2) التهذيب: 6 / 273 ح744 ، الإستبصار: 3 / 33 ح115 ، الوسائل: 27/ 267 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح9 .
- (3) أمالي الصدوق: 445 ح594 ، الوسائل: 27/ 269 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح16 .
- (4) تلخيص الحبير: 4 / 206 ح2134 .
(الصفحة 195)
في كتب فروعنا ، وإنّما رواه في المسالك(1) ، بل لعلّ مضمونه لا يوافق أصول الشيعة ، ويمكن أن يكون من محرفات العامة; لأنك قد سمعت ما نزل به جبرئيل عليه (صلى الله عليه وآله)(2) . انتهى .
الطائفة الرابعة: ما ورد في درع طلحة من الصحيحة المفصّلة المتقدّمة ، ومثل هذه الصحيحة لا يرتبط بهذا الأمر من المقام ، لا لما حكي عن الشيخ في الاستبصار: من أنّ إنكار أمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما هو على إطلاق قول شريح: لا أقضي بشهادة واحد(3) ، ولا لما أفاده في الجواهر من ضرورة عدم كون خصوص المقام ممّا يكفي فيه الشاهد واليمين من الوالي(4) ، بل لأنّه قد حكى فيها عليّ (عليه السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله)من أنّه «حيث ما وجد غلول أخذ بغير بيّنة»، كما لايخفى .
ومنه يظهر أنّ ما أفاده السيّد (قدس سره)في الملحقات في آخر كلامه من أنّه: لا يبعد إلحاق دعوى العين بالدين في الثبوت بالشاهد واليمين لا غير(5) ، نظراً إلى رواية الدرع في غير محلّه ، فتدبّر .
الطائفة الخامسة: الروايات الدالّة على الاختصاص بالدين ، وهي روايات كثيرة، مثل رواية محمد بن مسلم المتقدّمة ، ورواية حمّاد بن عثمان ، التي نقلها صاحب الوسائل وجعلها روايتين متعدّدتين ، والظاهر أنّهما رواية واحدة ، قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: كان عليّ (عليه السلام) يجيز في الدين شهادة رجل ويمين
- (1) مسالك الأفهام: 13 / 510 .
- (2) جواهر الكلام: 40 / 275 .
- (3) الإستبصار: 3 / 35 .
- (4) جواهر الكلام: 40 / 273 .
- (5) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 91 .
(الصفحة 196)
المدّعي(1) .
ورواية أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ وله شاهد واحد ؟ قال: فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحقّ، وذلك في الدين(2) .
ورواية القاسم بن سليمان قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام)يقول: قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله)بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده(3) . وغير ذلك من الروايات الدالّة على ذلك .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ اللازم في هذا الأمر ملاحظة طائفتين من الطوائف الخمس المتقدّمة:
الطائفة الظاهرة في جواز القضاء بشاهد ويمين في مطلق حقوق الناس .
والطائفة الظاهرة في الاختصاص بالدّين .
فاعلم أنّ المحكي عن الشيخ (قدس سره) في الاستبصار حمل إطلاق الاُولى على التقييد في الثانية(4) . وذكر صاحب الجواهر: أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما يصحّ بعد فرض التقييد ، وعدم قوّة المطلق من حيث كونه مطلقاً ، وهما معاً ممنوعان; لإمكان عدم إرادة التقييد في النصوص السابقة ، ضرورة أنّ القضاء بهما في الدّين أو جوازه لا
- (1) الكافي: 7 / 385 ح1 ، التهذيب: 6 / 273 ح745 ، الإستبصار: 3 / 32 ح110 ، الوسائل: 27/ 265 و268 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح3 و11 .
- (2) الكافي: 7 / 385 ح3 ، التهذيب: 6 / 272 ح742 ، الإستبصار: 3 / 32 ح109 ، الوسائل: 27/ 265 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح5 .
- (3) التهذيب: 6 / 273 ح745 ، الإستبصار: 3 / 32 ح110 ، الوسائل: 27/ 268 ، أبواب كيفيّة الحكم ب14 ح10 .
- (4) الإستبصار: 3 / 33 .
(الصفحة 197)
يقتضي عدم القضاء ولا عدم جوازه بغيره ، هذا بعد الإغضاء عن قصور السند ولا جابر له; لما عرفت من أنّ المشهور التعدية ، بل قد سمعت دعوى الإجماع عليه من الشيخ والحلّي(1) .
أقول: فرض عدم التقييد ـ لأنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ـ ينافي لسان جملة من الروايات الواردة في الدين الظاهرة في الاختصاص بلحاظ قوله (عليه السلام): «وذلك في الدين»(2) أو أنّه (صلى الله عليه وآله) قضى في الدّين وحده ، نعم قوّة المطلق بحالها ، نظراً إلى المقابلة بينه وبين حقوق الله والهلال ، كما في صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة(3) .
وهنا إشكال آخر وهو: أنّ مستند المشهور في جعل الضابط المال أو المقصود منه المال ماذا؟ ومن المستبعد جدّاً أن يكون مستندهم المرسلة المتقدّمة عن ابن عبّاس ، ولا مجال لأن يقال هنا: بأنّ استناد المشهور يكون جابراً لضعفها بعد كون مفادها مغايراً لعقائدنا ، وكونها غير مذكورة في كتب فروعنا ، فهل لعنوان الدين المذكور في الروايات معنى وسيع يشمل جميع الحقوق الماليّة ، بحيث كان مرجع فعلهم إلى شبه ما عمله في الاستبصار ، من تقييد حقوق الناس في الصحيحة بالحقوق الماليّة، فيلزم حينئذ عدم التعرّض فيها لمثل حقّ القصاص ونحوه ممّا لايكون مالا ، ولا ما يقصد به الأموال ، ويؤيّد سعة معنى الدين جعله مقابلا للهلال في روايته الاُخرى عن أبي عبدالله (عليه السلام) المتقدّمة أيضاً(4) ، لكن إطلاق لفظ الدين
- (1) جواهر الكلام: 40 / 274 و 272 .
- (2) أي في رواية أبي بصير المتقدّمة .
- (3 و 4) تقدّمتا في ص 193 .