(الصفحة 318)
ومنشأ الإشكال في سند الرواية وجود الحسن بن موسى الخشاب فيها . والمحكي عن النجاشي في حقّه أنّه من وجوه أصحابنا، مشهور(1) ، ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير الوثاقة بل ما فوقها وإن لم يصرّح بالوثاقة; ولذا عدّ من الذين وصل المدح فيهم ولم يصرّح بوثاقتهم ، وهل يجوز الاستناد في الحكم المخالف للقاعدة إلى مثل هذه الرواية؟ الظاهر العدم .
وعليه فلا محيص إلاّ الأخذ بمقتضى القاعدة وهو عدم لزوم الحلف . ثمّ إنّ المخالف لأصل التنصيف في المسألة هما القديمان على ما عرفت في كلام صاحب الجواهر ، فإنّ ظاهر ابن أبي عقيل هو اعتبار القرعة ، التي هي لكلِّ أمر مشكل في خصوص ما نحن فيه; لأنّ التنصيف تكذيب للبيّنتين ، وظاهر ابن الجنيد أنّه مع تساوي البيّنتين تعرض اليمين على المدّعيين ، فإن حلف أحدهما استحقّ الجميع ، وإن حلفا جميعاً كانت بينهما نصفين ، ومع اختلافهما يقرع ، فمن أخرجته القرعة حلف وأخذ العين(2) .
ويردّهما ـ مضافاً إلى أنّه لا إشكال ولا شبهة هنا بعد اقتضاء القاعدة ـ ما عرفت من تقديم بيّنة الخارج بالنسبة إلى كلاهما الموجب للتنصيف ، وليس مبتنياً على سقوط البيّنتين بالتعارض حتى يقال: إنّ المتعارضين وإن لم يكونا حجّتين في خصوص مدلولهما المطابقي ، إلاّ أنّهما حجّتان بالإضافة إلى نفي الثالث ، الذي هو مدلولهما الالتزامي: وهو التنصيف في المقام . ومضافاً إلى الروايات الواردة في الودعي الدالّة على التنصيف ـ ففي مرسلة ابن المغيرة في رجلين كان معهما درهمان
- (1) رجال النجاشي: 42 رقم 85 .
- (2) مختلف الشيعة: 8 / 387 ـ 388 .
(الصفحة 319)
الخ يقسّم الدرهم الثاني بينهما نصفين(1) . وفي رواية السكوني في رجل استودع رجلا دينارين ، فاستودعه آخر ديناراً ، لصاحب الدينارين دينار ، ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين(2) . إمّا بإلغاء الخصوصية ، وإمّا بالإطلاق الشامل لصورة إقامة البيّنة وغير صورة إقامة البيّنة ـ قيام الشهرة العظيمة(3) على التنصيف الجابرة لسند الرواية الدالّة عليه ، كما لا يخفى . فالقاعدة والنصّ والشهرة متطابقات، فتدبّر .
ثمّ إنّ صاحب الجواهر (قدس سره) بعد أن حكى عن الرياض أنّه نسب التنصيف إلى الأشهر ، بل عامّة من تأخّر إلاّ نادراً . حكى عنه أنّه قال: خلافاً للمهذّب ، وبه قال جماعة من الفقهاء ، فخصّوا ذلك بما إذا تساويا في الاُمور المتقدّمة كلّها ـ ومراده بالاُمور المتقدّمة تساوي البيّنتين عدداً وعدالةً إطلاقاً وتقييداً واختلافهما في ذلك ـ وحكموا مع الاختلاف فيها لأرجحها ، واختلفوا في بيان المرجّح لها ، فعن المفيد اعتبار الأعدليّة خاصّة هنا ، وإن اعتبر الأكثريّة في غيرها(4) ، وعن الإسكافي اعتبار الأكثرية خاصّة(5) ، وفي المهذّب اعتبارهما مرتّباً بينهما الأعدليّة فالأكثرية(6) ، وعن ابن حمزة اعتباره التقييد أيضاً مردّداً بين الثلاثة غير مرتّب
- (1) التهذيب: 6/208 ح481 وص292 ح809، الفقيه: 3/22 ح59، الوسائل: 18 / 450 ، كتاب الصلح ب9 ح1.
- (2) التهذيب: 6 / 208 ح483 وج7 / 181 ح797 ، الفقيه: 3 / 23 ح63 ، المقنع: 398 ، الوسائل: 18 / 452 ، أبواب الصلح ب12 ح1 .
- (3) لم أجد عاجلا ادّعاء الشهرة العظيمة من أحد ، نعم ادّعى جماعة الأشهر كصاحبي المسالك والرياض .
- (4) المقنعة: 730 .
- (5) مختلف الشيعة: 8 / 388 عن الإسكافي .
- (6) المهذّب البارع: 4 / 494 .
(الصفحة 320)
بينها(1) ، وعن الديلمي اعتبار المرجّح مطلقاً غير مبيّن له أصلا(2) ، (3) .
ثمّ ذكر صاحب الجواهر: ولم أعرف نقل هذه الأقوال على الوجه المزبور فيما نحن فيه لغيره ، ثمّ حكى ما عثر عليه في المقنعة ، وما عثر عليه في النهاية ، وما ذكره ابن حمزة ، ثمّ قال: وعلى كلّ حال لا أعرف دليلا يعتدّ به على شيء منها على وجه يصلح لمعارضة ما عرفت(4) .
أقول: التحقيق في المسألة ما ذكرنا من تطابق القاعدة والنصّ والشهرة على التنصيف ، وأنّه لا دليل يعتدّ به على الإحلاف .
الصورة الثالثة: ما إذا لم تكن العين المتنازع فيها في يد أحد أصلا ، أو كانت في يد ثالث ، والمراد ما إذا لم يدّع الثالث لنفسه ولم يقرّ لأحدهما بالخصوص ، وفي هذا الفرض قال المحقّق في الشرائع: ولو كانت في يد ثالث قضي بأرجح البيّنتين عدالةً ، فإن تساويا قضي لأكثرهما شهوداً ، ومع التساوي عدداً وعدالةً يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه اُحلف وقضي له ، ولو امتنع أحلف الآخر وقضي له ، وإن نكلا قضي به بينهما بالسويّة(5) . وفي محكي الرياض نسبته إلى الأشهر بل عامّة متأخّري أصحابنا(6) ، بل في المسالك وغيرها نسبته إلى الشهرة(7) بل عن محكيّ الغنية
- (1) الوسيلة: 218 .
- (2) المراسم: 234 .
- (3) رياض المسائل: 9 / 413 .
- (4) جواهر الكلام: 40 / 414 ـ 415 .
- (5) شرائع الإسلام: 4 / 898 .
- (6) رياض المسائل: 9 / 417 ، إرشاد الأذهان: 2 / 150 ، اللمعة: 52 ، المقتصر: 383 ـ 384 .
- (7) مسالك الأفهام: 87 ، كفاية الأحكام: 276 ، مستند الشيعة: 2 / 591 ، رياض المسائل: 9 / 420 ، وقد نسب هذا القول صاحب الرياض وغيره إلى جماعة كثيرة من المتقدّمين .
(الصفحة 321)
الإجماع عليه(1) ، لكنّ صاحب الجواهر (قدس سره) بعد نقل أقوال متعدّدة متكثّرة قال: وعلى كلّ حال فلا ريب في عدم الوثوق بالإجماع المزبور بعدما عرفت(2) .
وكيف كان فالكلام يقع في مقامين:
المقام الأوّل: فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الروايات الواردة ، فنقول:
مقتضى القاعدة في هذه الصورة تساقط البيّنتين من دون فرق بين فرض تساويهما عدداً وعدالةً ، أو اختلافهما في هذه الجهة ; لما عرفت من أنّ البيّنة تكون حجّة من باب الأمارية والطريقية ، وأنّ تعارض البيّنتين موجب لسقوطهما مطلقا من دون فرق بين فرض وجود المرجّح وعدمه بعد عمومية دليل حجّية البيّنة ، وعدم قيام دليل خاصّ على اختصاص إحدى البيّنتين بالحجّية ، كما في صورة وجود اليد لخصوص أحدهما على ما عرفت من أنّ مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(3) تقدّم بيّنة المدّعي على غيرها .
ومع حصول التساقط بسبب التعارض مطلقا تصل النوبة إلى أدلّة القرعة الدالّة على أنّها لكلّ أمر مشكل أو مشتبه(4) ، بعد ثبوت الإشكال والاشتباه هنا بلحاظ عدم الدليل على تقدّم إحداهما على الاُخرى ، بخلاف الصورتين الأوليين ، حيث إنّه قام الدليل فيهما على تقدم بيّنة المدّعي كما عرفت ، واللاّزم بعد إصابة القرعة إلى واحد منهما جعله صاحب المال من دون افتقار إلى يمين ، كما هو الحال في سائر موارد القرعة ، كما لا يخفى .
- (1) غنية النزوع: 443 ـ 444 .
- (2) جواهر الكلام: 40 / 425 .
- (3) وسائل الشيعة: 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 ح1 .
- (4) وسائل الشيعة: 27 / 257 ، أبواب كيفيّة الحكم ب13 .
(الصفحة 322)
المقام الثاني : في الرّوايات(1) التي يمكن أن يستفاد منها حكم هذه الصورة ، وهي مختلفة ، فمن بعضها يستفاد الترجيح بالأكثريّة عدداً مثل صحيحة أبي بصير المتقدّمة الدالّة على قول الصادق (عليه السلام): «أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه» . والحاكية لعمل أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنّه «قضى بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم» .
ورواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله ، عن أبي عبدالله (عليه السلام)المشتملة على قوله: «كان عليّ (عليه السلام)إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء وعددهم أقرع بينهم» الخ .
فإنّ تعليق الإقراع على التساوي في العدالة والعدد في كلام الإمام (عليه السلام) يشعر بأرجحيّة العدد والعدالة ، بخلاف ما إذا كان التساوي مفروضاً في غير كلام الإمام (عليه السلام) ، لكنّه لا يتجاوز عن حدّ الإشعار ولا يبلغ مرتبة الدلالة ، كما لا يخفى ، خصوصاً مع التعبير به كان الدالّ على الاستمرار .
ومرسلة داود بن يزيد العطار المتقدّمة أيضاً ، المشتملة على قوله (عليه السلام): «فاعتدل الشهود وعدلوا» بناءً على أن يكون المراد بالاعتدال هو التساوي في العدد ، وعلى أن يكون المراد بقوله: «عدلوا» هو التساوي في مرتبة العدالة .
ورواية سماعة المتقدّمة أيضاً المشتملة على توصيف البيّنة بأنّها سواء في العدد والكميّة . ومن بعضها الترجيح بالأعدلية كبعض الروايات المتقدّمة ، لكنه لا يكون فيها ما فيه الدلالة على ذلك ، بل غايته الإشعار كما عرفت .
- (1) تقدّمت في ص306 ـ 310 .