(الصفحة 323)
وهنا مشكلات اُخرى ، وهي أنّه ما الدليل على تقدّم الترجيح بالأعدلية على الأكثريّة، مع أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على الترجيح بالأكثرية الشمول لما إذا كانت هناك أعدلية؟ وما الوجه في أنّه بعد التساوي يجب الرجوع إلى القرعة ، مع أنّ رواية إسحاق بن عمار المتقدّمة دالّة على لزوم الإحلاف فيما إذا لم يكن المال في يد أحدهما ، وأنّه مع حلفهما يجعل المال نصفين(1) ، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة مطلقا؟ وما الوجه في أنّه بعد إصابة القرعة وعدم الحلف في اعتبار حلف الآخر ، مع أنّه لم يصب إليه القرعة إلاّ أن يستند إلى الأولوية؟ وهكذا إشكالات اُخرى مثل أنّ القرعة هل هي لاستخراج صاحب الحقّ كما يدلّ عليه بعض النصوص المشتمل على دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أو لاستخراج من يصير عليه اليمين كما في خبر عبدالرحمن بن أبي عبدالله المتقدّم؟
والإنصاف أنّ المسألة خصوصاً بهذا الشق في غاية الإشكال والصعوبة; لاضطراب الأقوال واختلاف الروايات ، مضافاً إلى ما في الجواهر من أنّه لا ريب في أنّ الترجيح للأعدلية; لإجماع ابن زهرة ـ يعني في الغنية(2) ـ المعتضد بالشهرة المحقّقة بين الأصحاب ، ووجود ذلك في رسالة عليّ بن بابويه(3) ، التي قيل فيها: كانوا إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها ، وفي النهاية(4) التي هي متون الأخبار وغير ذلك(5) .
- (1) تقدّمت في ص307.
- (2) غنية النزوع: 443 ـ 444 .
- (3) مختلف الشيعة: 8 / 386 عنه .
- (4) النهاية: 343 .
- (5) جواهر الكلام: 40 / 428 .
(الصفحة 324)
أقول: وكان سيدنا العلاّمة الاستاذ البروجردي (قدس سره) يقول في شأن النهاية والكتب الفقهية المؤلَّفة قبل مبسوط الشيخ (قدس سره): إنّه كان البناء على ذكر متون الروايات بعين الألفاظ الصادرة عنهم(عليهم السلام) ، وصار ذلك سبباً للطعن على فقهاء الشيعة وفقههم بعدم اطّلاعهم على التفريع وإخراج الفروع من الاُصول الصادرة; ولذا أقدم الشيخ على تأليف المبسوط وبيان الفروع وأحكامها ، كما أفاده في مقدّمة المبسوط .
وكيف كان ، فالمسألة بهذا النحو المذكور في الشرائع ممّا لا يمكن إقامة الدليل عليها ممّا بأيدينا من النصوص والروايات ، ولا يمكن الاحتياط فيها ، فاللاّزم ردّ علمها إلى أهلها كما لا يخفى . وهناك بحوث اُخر فيما يرتبط بالتأمّل والدقّة في الروايات لعلّها تظهر للمتأمّل ، فتأمّل .
(الصفحة 325)
خاتمة فيها فصلان:
[الفصل] الأوّل: في كتاب قاض إلى قاض
مسألة 1: لا ينفذ الحكم ولا تفصل الخصومة إلاّ بالإنشاء لفظاً ، ولا عبرة بالإنشاء كتباً ، فلو كتب قاض إلى قاض آخر بالحكم وأراد الإنشاء بالكتابة لا يجوز للثاني إنفاذه ، وإن علم بأنّ الكتابة له وعلم بقصده1.
1 ـ قد مرّ في بعض المسائل السابقة أنّ الحكم وفصل الخصومة إنّما هو من مقولة الإنشاء دون الإخبار ، فقول الحاكم: قضيت أو حكمت أو نحوهما ، إذا كان في مقام الإنشاء دون الإخبار عن الحكم الماضي وفصل الخصومة في السابق يترتّب عليه فصل الخصومة ورفع التنازع ، كما في العقود والايقاعات ، فقول: بعت إنّما يكون إيجاباً للبيع إذا كان في مقام الإنشاء لا الإخبار عن البيع في الزمان السّابق . والمقصود في هذه المسألة أنّ الإنشاء الفاصل للخصومة لابدّ وأن يكون بسبب اللفظ ، وأنّه لا عبرة بالإنشاء كتباً ، والمراد ليس عدم الاكتفاء بالكتابة لأجل إجمالها واحتمالها غير الفصل ، بل لو كان المقصود هو الفصل وعلم الحاكم الثاني بذلك ـ وأنّ مقصوده الحكم على طبقه وفصل الخصومة به ـ لا يجوز له إنفاذه .
والرواية الوحيدة الواردة في هذا الباب ما رواه السكوني وكذا طلحة بن زيد ،
(الصفحة 326)
عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي(عليهم السلام): أنّه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حدّ ولا غيره حتى وليت بنو اُمية ، فأجازوا بالبيّنات(1) . والظاهر انّها رواية واحدة كما في الوسائل ، وإن عبّر عنها في الجواهر بالخبرين; لاتّحاد المرويّ عنه وعدم الاختلاف في التعبيرات ولو في شيء يسير .
ثمّ الظاهر أنّ هنا أمرين لا يصحّ الاختلاط بينهما:
أحدهما: جواز إنشاء الحكم وفصل الخصومة بالكتابة ، وبعبارة أخرى بغير اللفظ وعدمه .
ثانيهما: جواز إنهاء الحكم إلى حاكم آخر لأجل الإجراء والتنفيذ ، من دون أن يكون نفس الحكم منشأً بالكتابة ، وقد تعرّض لهذا الأمر في المسألة الثانية ، كما أنّه قد تعرّض للأمر الأوّل في هذه المسألة ، وكتابة قاض إلى قاض آخر إنّما تناسب الأمر الثاني لا الأمر الأوّل . وعليه فتفريعه في المتن على هذا الأمر كأنّه في غير محلّه ، خصوصاً مع كون المكتوب إليه قاضياً آخر، إلاّ أن يقال بإمكان استفادة الحكم ، وهو عدم الجواز بالإضافة إلى هذا الأمر أيضاً ، ولكنّه محلّ تأمّل .
وكيف كان ، فإن كان المراد اختصاص إنشاء الحكم وفصل الخصومة باللفظ ، فلا يجوز بغيره مثل الفعل والكتابة ، بحيث كان المراد الفرق بين هذا المقام وهو إنشاء الحكم ، وبين مثل البيع الذي هو من الأمور الانشائية ، ويجري فيه المعاطاة والفعل . فيرد عليه أنّه لا دليل على الاختصاص ، فقد صرّح السيّد (قدس سره) في الملحقات بأنّه يكفي فيه الفعل الدالّ إذا قصد به إنشاء ، كما إذا أخذ مال المحكوم عليه ودفعه
- (1) التهذيب: 6 / 300 ح840 و 841 ، الوسائل: 27 / 297 ، أبواب كيفيّة الحكم ب28 ح1 .
(الصفحة 327)
إلى المحكوم له(1) . وإن كان المراد عدم كفاية الكتابة في مقام القضاء ومثله ، كما عن ابن إدريس في نوادر القضاء التصريح بأنّه لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلاّ إلى قول المفتي دون ما يجده بخطّه ـ إلى أن قال: ـ بغير خلاف من محصّل ضابط لأصول الفقه(2) . فالظاهر أنّه لا دليل عليه بنحو الإطلاق كما عن الأردبيلي أنّه مع العلم بقصده لا مانع من العمل بها قال: ولهذا جاز العمل بالمكاتبة في الرواية ، وأخذ المسألة والعلم والحديث من الكتاب الصحيح عند الشيخ المعتمد ، ولأنّه قد يحصل منها ظنّ أقوى من الظنّ الحاصل من الشاهدين ، بل يحصل منها الظنّ المتاخم للعلم ، بل العلم مع الأمن من التزوير ، وأنّه كتب قاصداً للمدلول ، وحينئذ يكون مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم ، بأنّ القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا ، فإنّه يجب إنفاذه وإجراؤه من غير توقّف ، ويكون ذلك مقصود ابن الجنيد(3) ، ويمكن أن لا ينازعه فيه أحد بل يكون مقصودهم الصورة التي لم يأمن فيها التزوير ، أو لم يعلم قصد الكاتب إرادة مدلول الرسم(4) .
والدليل على ما ذكرنا من كفاية الكتابة في صورة الأمن من التزوير السيرة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار على ذلك ، بل قال في الجواهر: يمكن دعوى الضرورة على ذلك ، خصوصاً مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف والوفاق ، ونقلهم الإجماع وغيره في كتبهم المعمول عليها بين العلماء(5) .
- (1) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 50 مسألة 3 .
- (2) السرائر: 2 / 187 .
- (3) مختلف الشيعة: 8 / 445 مسألة 45 عنه .
- (4) مجمع الفائدة والبرهان: 12 / 210 و 209 مع تقديم وتأخير ونقل بالمعنى تبعاً للجواهر .
- (5) جواهر الكلام: 40 / 304 .