(الصفحة 333)
إن كان الثاني حاضراً في مجلس الإنشاء الصّادر من الأوّل ، وأفاد أنّه خارج عن محطّ البحث لكن يجب إنفاذه . ويظهر من المحقّق في الشرائع التردّد في القبول حيث قال فيها: وأمّا القول مشافهة فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت ، ففي القضاء به تردّد . نصّ الشيخ في الخلاف(1) أنّه لا يقبل(2) .
ومن الواضح أنّ قول: حكمت أو أنفذت أو مثلهما إنّما هو إخبار عمّا وقع له من الإنشاء السابق لا الإنشاء ، كما أنّ التعبير بقوله: ففي القضاء به . . . إشارة إلى ما ذكرنا في القضاء التنفيذي من كونه حكماً ثانياً ، غاية الأمر كونه كذلك لا مجرّد تنفيذ حكم الحاكم الأوّل .
والظاهر أنّ منشأ الترديد أنّ خبر العادل الواحد في الموضوعات التي منها حكم نفسه لا يكون حجّة كما حقّقناه في محلّه ، وعليه فيحتاج إلى شهادة عادل آخر حتى تقوم البيّنة على ذلك ، وأنّ الإنشاء أمر لا يكاد يعلم إلاّ من قبله ، خصوصاً مع أنّ الظاهر أنّه لا يعتبر فيه أن يكون بحضور المتخاصمين وفي معرض استماعهما ، وإن كان مشروطاً بالتماس المحكوم له .
وحينئذ يكفي فيه الإخبار عن إنشاء الحكم إذا لم يكن بحضورهما ، فإذا كان إخباره كافياً لهما مع كونه عادلا وإن كان واحداً ، فالظاهر كفايته بالإضافة إلى الحاكم الآخر ، وخبر العادل الواحد وإن لم يكن حجّة في الموضوعات بنحو الكلية إلاّ أنّه حجة في بعض الموارد ، بل وإن لم يكن عادلا ، كإخبار البائع بوزن المبيع الموزون أو كيل المبيع المكيل ، وإخبار ذي اليد بنجاسة ما في يده ونظائرهما . وقد
- (1) الخلاف: 6 / 245 مسألة 42 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 884 .
(الصفحة 334)مسألة 3: الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبي عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة; لأنّ قطع الخصومة حصل بحكم الأوّل ، وإنّما أنفذه وأمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة والاُمراء ، ولا أثر له بحسب الواقعة ، فإنّ إنفاذه وعدم
حكم صاحب الجواهر (قدس سره) ـ بعد حكاية تردّد المحقّق ـ بأنّ أقربه القبول(1) كما ستعرف ، ولكني لم أتحقّق وجهه في كلامه ، والظاهر أنّ وجهه ما ذكرنا .
الثالث ، شهادة البيّنة على حكم الحاكم الأوّل : وقد عرفت أنّ المراد بقوله: «فأجازوا بالبيّنات» في رواية السكوني هي البيّنة على الكتابة لا البيّنة في أصل الواقعة في مقابل اليمين ، التي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّهما: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2) . ومن الواضح عدم كون الولي مخالفاً للنبيّ صلّى الله عليهما وآلهما . وستعرف في بعض المسائل الآتية أنّ حجّية البيّنة على إنشاء القاضي لا يعتبر فيها حضور مجلس الإنشاء ولا إشهاد القاضي إيّاها ، بل هي حجّة مطلقا سواء كانا حاضرين مجلس الإنشاء أم لا ، وسواء أشهدهما القاضي أم لا . وسيأتي أيضاً في بعض المسائل الآتية إن شاء الله تعالى الفرق بين حقوق الناس وحقوق الله فانتظر .
وهكذا في وجوب الإنفاذ بالمعنى الذي ذكرناه; ما لو علم القاضي الثاني بحكم القاضي الأوّل بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين . والمراد صورة إفادة إقرارهما العلم بذلك ، وإلاّ فربّما لا يكون الإقرار الكذائي مفيداً للعلم ، كما إذا لم يكن المتخاصمان مدّعياً ومنكراً ، بل متداعيين واحتمل التباني بينهما، كما لا يخفى .
- (1) جواهر الكلام: 40 / 306 .
- (2) وسائل الشيعة: 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
(الصفحة 335)إنفاذه بعد تمامية موازين القضاء في الأوّل سواء ، وليس له الحكم في الواقعة; لعدم علمه وعدم تحقّق موازين القضاء عنده1.
1 ـ قد عرفت في ذيل المسألة الثانية المتقدّمة أنّ القضاء التنفيذي نوع من القضاء وقسم منه ، وقد عرفت أنّ المحقّق في الشرائع عبّر بالقضاء به أي بالقول مشافهة ، كما أنّك عرفت وجه الاحتياج والافتقار إليه ، وموضوعه القضاء الأوّل بعد تماميّة موازين القضاء عند القاضي الأوّل الحاكم في نفس الواقعة بخصوصياتها، وعليه فالتعبير بمغايرة الإنفاذ عن حكم الحاكم الثاني لا يكون في محلّه ، وعدم كونه حكماً لأجل عدم العلم بالواقعة ، وعدم تحقق موازين القضاء عند الحاكم الثاني لا يلائم إلاّ مع عدم كونه حكماً في الواقعة مستقيماً ، وأمّا عدم كونه حكماً وانشاءً مطابقاً لإنشاء الأوّل فلا ، وعليه فالمغايرة إنّما هي باعتبار كونه حكماً في الواقعة لا باعتبار أصل الحكم وإنشائه .
وبالجملة: فالدقّة في العبارة تعطي أنّ الماتن (قدس سره) إنّما هو في مقام بيان أنّ الحكم الثاني لا يكون حكماً في الواقعة بحيث يترتّب عليه فصل الخصومة ، وأمّا أصل كونه حكماً إنشائياً فلا يكون المتن بصدد نفيه ، وإن كان ربّما يوهمه في بادئ النظر، كما لايخفى .
والانصاف أنّ القولَ بعدم كونه حكماً ناشئٌ عن عدم الدقّة والتدبّر في كلمات القوم وعباراتهم ، وعن تخيّل كون فصل الخصومة ورفع التنازع قد حصل بحكم الأوّل ، فلا مجال لحكم الثاني ، فلابدّ أن يكون حكمه إنفاذاً لحكم الأوّل غفلة عن أنّه نوع من القضاء لا يعتبر فيه العلم بالواقعة ، وتحقّق موازين القضاء عنده بل موضوعه حكم الأوّل مع الخصوصيّات المتحقّقة .
وقد عرفت أنّ الحصر في قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» حصر
(الصفحة 336)مسألة 4: لا فرق فيما ذكرناه بين حقوق الله تعالى وحقوق الناس إلاّ في الثبوت بالبيّنة ، فإنّ الإنفاذ بها فيها محلّ إشكال والأشبه عدمه1.
إضافي; ولذا يجوز للقاضي القضاء بعلمه ، لو لم نقل بالانصراف إلى القضاء الأصلي في نفس الواقعة .
وعليه فالدليل عليه هو الدليل على أصل مسألة القضاء ممّا يدلّ على كون القاضي حَكَماً وحجّة ، كما مرّ في كلام صاحب الجواهر ، مضافاً إلى أنّ الأمر الثالث المتحقّق في المقام بعد عدم كون عمل القاضي الثاني قضاءً في نفس الواقعة ـ لعدم تحقّق موازين القضاء عنده ، وعدم كونه إجراءً محضاً ـ هو الانشاء على طبق حكم الأوّل والحكم عليه ، لا مجرّد القبول والرّضا .
فالحقّ ما عرفت ، وإن كان ربّما يستبعده الذهن خصوصاً بعد ارتباطه نوعاً بالقضاء الأصلي ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ الظاهر وقوع السّهو والاشتباه في تقديم حقوق الله تعالى في الذكر على حقوق الناس ، فإنّ ما هو محلّ الإشكال في الثبوت بالبيّنة إنّما هي حقوق الله .
قال المحقّق في الشرائع: العمل بذلك ـ أي بالقضاء التنفيذي ـ مقصور على حقوق الناس دون الحدود وغيرها من حقوق الله(1) ، وأضاف إليه في الجواهر قوله: بلا خلاف أجده فيه ، بل حكى الإجماع عليه غير واحد(2) ، بل قد يشهد له التتبّع ، وهو حجّة لا ما ذكروه من درء الحدود بالشبهات التي لا محلّ لها بعد قيام البيّنات .
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 885 .
- (2) رياض المسائل: 9 / 350 ، قواعد الاحكام: 2 / 216 ـ 217 .
(الصفحة 337)مسألة 5: لا يعتبر في جواز شهادة البيّنة ولا في قبولها هنا غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات ، فلا يعتبر إشهادهما على حكمه وقضائه في التحمّل ، وكذا لا يعتبر في قبول شهادتهما إشهادهما على الحكم ، ولا حضورهما في مجلس الخصومة وسماعهما شهادة الشهود ، بل المعتبر شهودهما أنّ الحاكم حكم بذلك ، بل يكفي علمهما بذلك1.
ثمّ قال: اللهمّ إلاّ إنّ يقال: إنّ الشبهة حاصلة للحاكم الآخر حتى لو سمع إنشاء حكمه فضلا عن الشهادة به ، فلا يشرع قضاء التنفيذ في الحدّ(1) . . . .
أقول: ويمكن أن يكون الوجه فيه ـ بناء على كون الإجماع فقط مدركاً للقضاء التنفيذي ـ إنّ الإجماع حيث يكون دليلا لبّياً ، والأدلّة اللبّية يقتصر فيها على القدر المتيقّن ، فالقدر المتيقّن هي حقوق الناس دون حقوق الله مثل الحدّ وغيره ، فإنّها محلّ إشكال لو لم نقل بقيام الإجماع فيها على العدم ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ قد عرفت أنّ طرق الإنهاء ثلاثة:
منها: قيام البيّنة عند الحاكم الثاني على ثبوت حكم الحاكم الأوّل وإنشائه لرفع الخصومة والنزاع ، فاعلم أنّه لا يعتبر في اعتبار هذه البيّنة شيء زائد على البيّنة المعتبرة في سائر المقامات ، فلا يعتبر حضورهما في مجلس المرافعة ولا سماعهما شهادة الشهود ، بل ولا سماع إنشاء الحاكم الأوّل ، بل الظاهر كفاية علمهما بذلك ، كما يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات(2) .
نعم ، القدر المتيقّن صورة حضور الشاهدين سماع الحكم وإشهادهما الحاكم
- (1) جواهر الكلام: 40 / 312 .
- (2) يأتي في «القول في الشهادة على الشهادة» .