(الصفحة 38)
أقول : الوجه في ذلك أنّ الترجمة بحكم الشهادة على الشهادة لا أصل الشهادة; ولذا يكتفى بالعدلين في ترجمة شهود الزنا المعتبر فيه أربعة ، ولا مجال لأن يقال : بأنّه من باب الرواية التي يكتفى فيها بالواحد ، ولا لأن يقال : بأنّه يكفي في الموضوعات خبر العدل الواحد . أمّا الثاني فلما حقّقناه في محلّه وأشرنا إليه آنفاً : أنّ الدليل على حجّية البيّنة في الموضوعات ينفي كفاية أقلّ من العدلين فيها ، وإلاّ لا مجال لهذا الدليل بعد كون العادل الواحد من سنخ البيّنة . وأمّا الأول فلأنّ الشهادة أمر والخبر أمر آخر ، ولا تكون حجيّة الشهادة من باب الخبر وإن اتّحدا في الجنس ، ضرورة أنّهما نوعان عرفاً ومتغايران كذلك ، وأدلّة أحدهما لا تشمل الآخر بوجه ، فإذا كانت الوحدة كافية في الخبر فلا تلازم كفايتها في الشهادة ، فحجّية خبر العادل الحاكي لقول المعصوم (عليه السلام) أو فعله أو تقريره لا تلازم حجّية مطلق الشّهادة ، ولو كان الشاهد واحداً .
نعم هنا شبهة وهي : أنّ آية النبأ التي ربّما يستدلّ بمفهومها على حجّية خبر العادل في علم الاصول يكون موردها من أفراد الشهادة، وهوارتداد بني المصطلق ، فيقال حينئذ : إنّه لِمَ قد عبّر عن الشهادة فيه بالنبأ الذي معناه الخبر ، مضافاً إلى أنّ شهادة الفاسق لا تبين فيها أصلا ، بل تكون مطرودة مطروحة من أوّل الأمر .
ودعوى أنّ المراد من المفهوم فيها عدم وجوب تبيّن نبأ العدل في موضوعي الشهادة والرّواية على معنى كونه مقبولا في الجملة ، وإن كان قبوله في الشهادة على معنى أنّه جزء البيّنة ، وقبوله في الرواية العمل به من غير حاجة إلى التعدّد ، مدفوعة بضعف هذا التوجيه ، وإن صدر من مثل صاحب الجواهر (قدس سره)(1) فراجع .
- (1) جواهر الكلام : 40 / 108 .
(الصفحة 39)
القول في صفات القاضي وما يناسب ذلك
مسألة 1 : يشترط في القاضي البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والاجتهاد المطلق ، والذكورة وطهارة المولد ، والأعلميّة ممّن في البلد أو ما يقربه على الأحوط ، والأحوط أن يكون ضابطاً غير غالب عليه النسيان ، بل لو كان نسيانه بحيث سلب منه الاطمئنان ، فالأقوى عدم جواز قضائه . وأمّا الكتابة ففي اعتبارها نظر ، والأحوط اعتبار البصر ، وإن كان عدمه لا يخلو من وجه1.
1 ـ فيما يعتبر في القاضي أو قيل أو احتمل اعتباره ، وهي اُمور :
الأوّل : البلوغ ، فإنّ اُمور الصّبي وإن كانت شرعيّة والحقّ صحّتها ، كما حقّقناه في قواعدنا الفقهيّة التي منها شرعيّة عبادات الصبيّ(1) ، ولا مجال لأن يقال : إنّ بطلانه لعدم وجوب القضاء عليه لا كفاية ولا عيناً لرفع قلم التكليف الإلزامي عنه(2) ، وإن كان الحكم الوضعي ثابتاً بالإضافة إليه ، مثل الضمان فيما إذا أتلف مال
- (1) القواعد الفقهيّة : 1 / 341 ـ 356 .
- (2) يراجع الوسائل : 28 / 22 ، أبواب مقدّمات الحدود ب8 .
(الصفحة 40)
الغير وهكذا ، وذلك لأنّ نفوذ الحكم غير وجوبه ، والدليل على اعتباره هو أنّ ولاية القضاء والحكومة مجعولة لعنوان الرجل ـ الذي فيه خصوصيّتان : الرجوليّة وعدم كونه انثى ، والبلوغ وعدم كونه صبيّاً ـ في صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال في قوله (عليه السلام) : اِجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً ، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر(1) ، مع أنّ مقتضى الأصل عدم نفوذ حكم أحد على أحد ، ولا مجال لأن يقال : بإلغاء الخصوصيّة من عنوان الرجل ، كما في سائر الموارد ، مثل قوله : رجل صلّى فلم يدر أفي الثالثة هو أم في الرابعة(2) ، حيث إنّه لا يختصّ أحكام الشكوك في باب الصلاة بالرجل ، ولا لأن يقال : بأنّ التعبير في الصحيحة وإن كان بالرجل ، إلاّ أن التعبير في ذيل المقبولة أي مقبولة عمر بن حنظلة بـ «من» الموصولة ، وهي شاملة للصبي في قوله (عليه السلام) : ينظران مَن كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فانّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما استخفّ بحكم الله ، وعلينا ردّ ، والراد علينا الراد على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله ، الحديث(3) .
أقول : وجه عدم جواز إلغاء الخصوصيّة كما في سائر الموارد العلم بعدم الخصوصيّة فيها دون المقام ، خصوصاً بعد كون التعبير صادراً من الإمام العالم بالخصوصيّات ، وخصوصاً مع أهمّية منصب القضاء ، وعدم نفوذ حكم أحد بالإضافة إلى غيره بدون الدليل عليه .
- (1) الوسائل : 27 / 139 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح6 .
- (2) الوسائل : 8 / 218 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب10 ح7 .
- (3) الوسائل : 27 / 137 ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
(الصفحة 41)
والوجه في الثاني مضافاً إلى استشكال بعض الأعلام في السند وان رفعناه سابقاً ، وإلى احتمال الانصراف إلى البالغين ، كما لايبعد أن جعل منصب القضاء للبالغ في قالب التعبير بالرجل ، مع كون المتكلّم فاعلا مختاراً عالماً بتمام المعنى يغاير الجعل ، بالإضافة إلى العموم الشامل لغير البالغ ، وإن لم يكن له مفهوم سلبيّ في باب المفاهيم المذكورة في علم الاُصول ، حتى يكون المفهوم السلبي مقيّداً للاطلاق الايجابي ، إلاّ أنّ التغاير العرفي الموجب لحمل المطلق على المقيّد موجود هنا ، كما لايخفى .
الثاني : العقل ، فلا يصحّ قضاء المجنون ، ولو كان الجنون أدوارياً وكان القضاء في حال إفاقته; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّ علوّ مقام القضاء وشموخ هذا المنصب لا يناسب المجنون بوجه ، وإلى أنّ منصب القضاء من المناصب الثلاثة الثابتة للرسول (صلى الله عليه وآله)ـ انصرف أدلّة النصب عن المجنون ، ولا ريب في تحقّق هذا الانصراف خصوصاً بعد ادّعاء الشيخ في رسالة القضاء ثبوت الإجماع المحقّق والمنقول على اعتباره(1) .
الثالث : الايمان المساوق للاعتقاد بالولاية وإمامة الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، لا الإيمان المقابل للكفر ، فإنّ اعتباره واضح ، والدليل على اعتبار الإيمان المذكور ـ مضافاً إلى دعوى الإجماع التي عرفتها من الشيخ الأنصاري (قدس سره) ـ التقييد بقوله (عليه السلام) : «منكم» في مقبولة عمر بن حنظلة ، الظاهر في اعتبار كون الرجل من أهل الإيمان ، والنهي عن التّرافع إلى قضاة الجور ، وتطبيق قوله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَد اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(2) على قضاة الجور ، وإن
- (1) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 29 .
- (2) سورة النساء 4 : 60 .
(الصفحة 42)
كان قضاؤهم أحياناً حقّاً غير باطل ، وأنّه لا يجوز أخذه لكونه سحتاً على ما عرفت .
الرابع : العدالة ، والدليل على اعتبارها مضافاً إلى التعبير عن قضاة الجور المنصوبين من قبل سلاطين الجور بالفسّاق ، كما في رواية أبي خديجة المتقدّمة المشتملة على قوله (عليه السلام) : «إيّاكم ـ إلى قوله : ـ أن تحاكموا(1) إلى أحد من هؤلاء الفسّاق» وإلى أنّ اعتبار العدالة في الشاهد وفي إمام الجماعة يقتضي اعتبارها في القاضي بنحو الأولويّة القطعيّة ، مع أنّه من مصاديق الركون إلى الظالم المنهيّ عنه في الآية الشريفة ، والإجماع الذي حكاه الشيخ الأنصاري (قدس سره) شامل له .
الخامس : الاجتهاد المطلق الشامل لأمرين : أصل الاجتهاد وكونه مجتهداً مطلقاً .
فنقول : أصل اعتبار الاجتهاد ممّا لا إشكال فيه ، وإن عبّر عنه العلاّمة في محكيّ القواعد بالعلم(2) ، لكنّ المراد به هو الاجتهاد الناشئ عن الأدلّة المتعارفة ، لا العلم من أيّ سبب كان ، وإن كان حجّة في نفسه في القطع الطريقي كما بيّن في الاُصول ، ولا يختصّ بالعلم المقابل للظنّ ، بل يشمل الظنّ المعتبر والاُصول العمليّة .
وأمّا اعتبار كونه مجتهداً مطلقاً ، فالمنسوب إلى صاحب المسالك دعوى الإجماع عليه ، ولكن ملاحظة عبارة المسالك(3) تقضي بخلافه ، بل ذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) : إنّ المشهور صحّة التجزي(4) ، بل القول بعدمها لم نعرفه من الإماميّة
- (1) في التهذيب : تتحاكموا .
- (2) قواعد الأحكام : 2 / 201 ، الفصل الثاني .
- (3) مسالك الأفهام : 13 / 328 .
- (4) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 32 .