(الصفحة 43)
قبل صاحب المعالم(1) .
أقول : إن كان المراد صحّة التجزّي في باب القضاء لا في نفسه في مقابل من يقول بالاستحالة ، فقد ذكر المحقّق في الشرائع قوله : ومع عدم الإمام (عليه السلام) ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) الجامع للصفات المشروطة في الفتوى(2) . ومن الواضح أنّ من جملة تلك الصفات الاجتهاد المطلق .
وكيف كان فقد قوّى عدمَ الفرق في المجتهد بين المطلق والمتجزّي في باب القضاء الشيخُ في الرسالة(3) ، وفاقاً للمصنّف ـ أي العلاّمة ـ في القواعد(4) والشهيدين(5)والمحقّق السبزواري في الكفاية(6) ، والمحقّق القمّي في الغنائم(7) وبعض آخر ، ولابدّ من ملاحظة الروايات الواردة في هذا المجال .
فنقول : إنّ لأبي خديجة سالم بن مكرم الجمال روايتين بحسب الظاهر ، إحداهما : ما عرفت ، والثانية : قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا) فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً ، فتحاكموا إليه(8) .
- (1) معالم الدين : 27 و239 .
- (2) شرائع الإسلام : 4 / 861 .
- (3) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 30 .
- (4) قواعد الأحكام : 2 / 202 .
- (5) الدروس الشرعيّة: 2 / 66، الروضة البهيّة: 2 / 418.
- (6) كفاية الاحكام : 261 .
- (7) غنائم الأيّام : 672 ـ 673 .
- (8) الفقيه : 3 / 2 ح1 ، الكافي : 7 / 412 ح7 ، التهذيب : 6 / 219 ح516 ، الوسائل : 27 / 13 ، أبواب صفات القاضي ب1 ح5 .
(الصفحة 44)
وقد تبع صاحب الجواهر (قدس سره) صاحب الوسائل في تعدّد الرّواية وتكثّرها(1) ، ولكنّ الظاهر عدم التعدّد كما أشرنا إليه مراراً ، ويؤيّد عدم التعدّد في المقام أنّه لابدّ بناءً على التعدّد من الحكم بأنّ قوله (عليه السلام) : «فإنّي قد جعلته قاضياً» يكون الجعل في المتقدّم جعلا إنشائيّاً صادراً في مقام بيان النصب ، وفي المتأخّر جعلا خبريّاً حاكياً عن الجعل الإنشائيّ القبلي ، كما في قول القائل : بعت داري . فإنّه إذا كان في مقام عقد البيع يكون هذا الكلام إنشائيّاً صادراً لبيان إنشاء البيع وعقده ، وإذا كان في مقام الإخبار عن البيع الواقع سابقاً يكون إخباريّاً حاكياً عنه ، مع أنّ العبارة في الرّواية تأبى عن الأمرين جميعاً ، فلا يلتئم إلاّ مع الوحدة وعدم التعدّد .
وحينئذ فإن كان الصادر هو الأوّل ينطبق على بعض الاُمور المذكورة في المقبولة ، وسيجيء إن شاء الله تعالى . وإن كان الصادر هو الثاني المشتمل على قوله : «يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا)» فالظاهر أنّ المراد من الشيء هو المقدار المعتدّ به ، كما ربّما يظهر بملاحظة التعبيرات العرفيّة لا الشيء الصادق بالواحد ، وحينئذ فإن كان الصادر «قضايانا» يصير المراد مقداراً معتدّاً به من أحكامهم ، فإنّ القضايا جمع القضيّة المشتملة على الموضوع والمحمول ، والإضافة تفيد الاختصاص أي الأحكام المختصّة بهم ، ولا دلالة للرواية حينئذ على اعتبار الاجتهاد المطلق بوجه ، وإن كان الصّادر (قضائنا) فكذلك أيضاً ، إلاّ أنّه يرد أنّه لابدّ من حذف المضاف ، أي يكون المراد حكمنا في القضاء; لأنّهم لم يكونوا متصدّين للقضاء ، ولعدم مساعدة الجوّ والفضاء لقضائهم ، بل لتدريسهم أيضاً . وعلى أيّ فلم يعلم الصّادر; لأنّ الرواية واحدة والجملة الصادرة مردّدة ، على ما عرفت .
- (1) جواهر الكلام : 40 / 31 .
(الصفحة 45)
وأمّا المقبولة ، فربّما يقال : إنّ الدالّ على اعتبار الاجتهاد المطلق هو قوله (عليه السلام) : «وعرف أحكامنا» نظراً إلى أنّ الجمع المضاف يفيد العموم ، أي جميع أحكامهم .
لكنّه أورد عليه الشيخ في الرسالة : بأنّ حمل الجمع على العموم غير ممكن مع إبقاء قوله (عليه السلام) «عَرَفَ» على ظاهره من المعرفة الفعليّة; للإجماع بل الضرورة على عدم اعتبار العلم الفعليّ بجميع الأحكام ، فحمل الفعل الماضي على إرادة الملكة ليس بأولى من حمل المضاف على الجنس ، بل هو أولى بمراتب ، ومع التّساوي فيسقط الاستدلال(1) .
أقول : بل لا يمكن اعتبار العلم الفعلي بجميع أحكام الأئمّة (عليهم السلام) خصوصاً مع أنّ علومنا ليس في مقابل علومهم إلاّ كالقطرة من البحر ، ولكنّ الاستدلال لا يتوقّف على إفادة الأحكام للعموم ، حتّى يمنع بأنّ الجمع المضاف لا يفيد العموم ، بل لو كان الجنس مكان الجمع كما في الأمرين الأوّلين لأفاد اعتبار الاجتهاد المطلق أيضاً; لأنّه لا يراد من رواية الحديث المضاف إليهم حينئذ ، ولا من النظر في حلالهم وحرامهم ، ولا من معرفة حكمهم ما يكون منطبقاً عليه الجنس وهو الواحد; لأنّه ـ مضافاً إلى عدم تناسب ذلك مع جعل منصب القضاء والحكومة ، ولابدّ من تناسب الحكم والموضوع ـ لا يكون المتفاهم العرفي من هذه التعبيرات إلاّ ما ينطبق على الاجتهاد المطلق ، مع أنّ محدودة اجتهاد المتجزّي إن كانت غير باب القضاء فاعتباره في مسألة القضاء لا يعرف له وجه ، وإن كانت في محدودة القضاء فلا يكون في الرواية إشعار إليه .
وعلى تقدير كون الصادر «شيئاً من قضائنا» في رواية أبي خديجة يدلّ على
- (1) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 31 .
(الصفحة 46)
اعتبار التجزّي في باب القضاء كما لا يخفى ، وكيف كان فاعتبار التجزّي بنحو الاطلاق الشامل لباب الصلاة مثلا في صحّة القضاء لا يعرف له وجه . ومن هنا يشكل الحكم بكفاية التجزّي في الاجتهاد بعد الحكم باعتبار أصله .
كما أنّه يشكل الحكم باعتبار الاجتهاد المطلق; لأنّ المنصوبين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)وعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في زمان حكومته وبسط يده لم يكونوا واجدين لذلك ، وعلى الأقلّ جميعهم لا يكون كذلك بالضرورة . ولو قلنا : بأنّ الاجتهاد المطلق في تلك الأزمنة لم يكن بهذه السعة المتحقّقة في هذه الأزمنة ، ولم يكن متوقّفاً على علوم كثيرة صعبة كالأدبيّة العرفيّة لغير من تكون لغته عربيّة ، وعلم الرجال وغيرهما ، بل كان متوقّفاً على مسائل سهلة واُمور يسيرة مثلا .
والّذي يختلج بالبال في كلّ أساس الإشكال أن يقال ولو على سبيل الاحتمال : إنّ دلالة المقبولة على اعتبار الاجتهاد المطلق فيمن جعل له القضاء والحكومة ، وإن كان ممّا لا تنبغي المناقشة فيه ، إلاّ أنّه لا يلزم الاعتبار مطلقاً بالإضافة إلى زمن الغيبة ، وفي جميع الحالات والشرائط والأمكنة والأزمنة .
توضيح ذلك : أنّ التشكيلات القضائيّة في كلّ نظام وحكومة حتى الحكومات الدنيويّة المنكرة لأساس الأديان فضلا عن الإسلام ، لها دخالة كاملة في حفظ تلك الحكومة وذلك النظام ، وإجراء مقرّراته وقوانينه ، وحفظ الأمنيّة التامّة وحقوق الناس ، ويصحّ التعبير عنها بأنّها يد الحكومة وقوام بقائها وضامن حفظها ، وهكذا في النظام الإسلامي والحكومة المبتنية عليه .
وحينئذ
نقول : إنّ إصرار الأئمّة (عليهم السلام) وتأكيدهم والتشديد على عدم جواز الترافع إلى قضاة الجور ، وحرمة ما اُخذ بحكمهم ولو كان حقّاً; لأنّه قد أُخذ بحكم الطاغوت ، وهو من مصاديق قوله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ
(الصفحة 47)
وَقَد أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(1) ليس لمجرّد كونهم فاسقين غير عادلين ، وكون حكمهم بالباطل غالباً وبغير حقّ ، بل لكونهم أيادي الظلمة وسلاطين الجور الغاصبين لحقّهم (عليهم السلام) ، ويكون الترافع إليهم تأييداً لهم ولمن هم من أياديهم ، وعدم الترافع يكون موجباً لضعفهم وضعف الحكومة الناصبة لهم .
ومن ناحية اُخرى لم يكن للأئمّة (عليهم السلام) القدرة الموجبة للنصب الخاصّ بالإضافة إلى الأفراد الذين هم مورد لنظرهم; لأنّ القدرة والسلطة كانت في اختيار الجائرين الغاصبين ، وكذلك لم يكن الحضور إلى محضرهم أمراً ممكناً غالباً ، لأنّهم كانوا في حصر شديد ومراقبة كاملة ، ولم يكن للشيعة الوصول إليهم في أيّ زمان أرادوا .
وعليه فيمكن أن يقال: بأنّ مفاد المقبولة النصب العامّ بالإضافة إلى زمن الحضور، لمن كان مجتهداً مطلقاً لا يحتاج إلى مراجعة شخص الإمام (عليه السلام) نوعاً . وأمّا إذا كانت الحكومة شيعيّة ، وكان الحاكم لائقاً شرعاً للحكومة ، فلا حاجة إلى الاجتهاد المطلق ، كما كان في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام) في زمان حكومته وخلافته ظاهراً .
كما أنّ الأمر كذلك في زماننا هذا بالنسبة إلى النظام الحاكم على مملكة إيران ، فإن إدارة التشكيلات القضائيّة نوعاً بيد القضاة غير الواجدين للاجتهاد المطلق ، ولا مجال لأن يقال : إنّ المجوّز لذلك الضرورة أو إذن المجتهد المطلق ، بل لا دليل على الاعتبار بعد كون اللاّزم عليهم إجراء المصوّبات ، أو الرجوع إلى فتوى مرجع خاصّ ، وليس لهم إعمال الاجتهاد الشخصي ، وإن كان ثابتاً بالإضافة إلى بعضهم .
فالتحقيق أنّ مفاد المقبولة إذن نصب عامّ بالإضافة إلى الشرائط المشابهة لا مطلقاً ، ولا دليل على إعتبار غير المقبولة حتى رواية أبي خديجة على ما عرفت .