(الصفحة 45)
وأمّا المقبولة ، فربّما يقال : إنّ الدالّ على اعتبار الاجتهاد المطلق هو قوله (عليه السلام) : «وعرف أحكامنا» نظراً إلى أنّ الجمع المضاف يفيد العموم ، أي جميع أحكامهم .
لكنّه أورد عليه الشيخ في الرسالة : بأنّ حمل الجمع على العموم غير ممكن مع إبقاء قوله (عليه السلام) «عَرَفَ» على ظاهره من المعرفة الفعليّة; للإجماع بل الضرورة على عدم اعتبار العلم الفعليّ بجميع الأحكام ، فحمل الفعل الماضي على إرادة الملكة ليس بأولى من حمل المضاف على الجنس ، بل هو أولى بمراتب ، ومع التّساوي فيسقط الاستدلال(1) .
أقول : بل لا يمكن اعتبار العلم الفعلي بجميع أحكام الأئمّة (عليهم السلام) خصوصاً مع أنّ علومنا ليس في مقابل علومهم إلاّ كالقطرة من البحر ، ولكنّ الاستدلال لا يتوقّف على إفادة الأحكام للعموم ، حتّى يمنع بأنّ الجمع المضاف لا يفيد العموم ، بل لو كان الجنس مكان الجمع كما في الأمرين الأوّلين لأفاد اعتبار الاجتهاد المطلق أيضاً; لأنّه لا يراد من رواية الحديث المضاف إليهم حينئذ ، ولا من النظر في حلالهم وحرامهم ، ولا من معرفة حكمهم ما يكون منطبقاً عليه الجنس وهو الواحد; لأنّه ـ مضافاً إلى عدم تناسب ذلك مع جعل منصب القضاء والحكومة ، ولابدّ من تناسب الحكم والموضوع ـ لا يكون المتفاهم العرفي من هذه التعبيرات إلاّ ما ينطبق على الاجتهاد المطلق ، مع أنّ محدودة اجتهاد المتجزّي إن كانت غير باب القضاء فاعتباره في مسألة القضاء لا يعرف له وجه ، وإن كانت في محدودة القضاء فلا يكون في الرواية إشعار إليه .
وعلى تقدير كون الصادر «شيئاً من قضائنا» في رواية أبي خديجة يدلّ على
- (1) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 31 .
(الصفحة 46)
اعتبار التجزّي في باب القضاء كما لا يخفى ، وكيف كان فاعتبار التجزّي بنحو الاطلاق الشامل لباب الصلاة مثلا في صحّة القضاء لا يعرف له وجه . ومن هنا يشكل الحكم بكفاية التجزّي في الاجتهاد بعد الحكم باعتبار أصله .
كما أنّه يشكل الحكم باعتبار الاجتهاد المطلق; لأنّ المنصوبين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)وعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في زمان حكومته وبسط يده لم يكونوا واجدين لذلك ، وعلى الأقلّ جميعهم لا يكون كذلك بالضرورة . ولو قلنا : بأنّ الاجتهاد المطلق في تلك الأزمنة لم يكن بهذه السعة المتحقّقة في هذه الأزمنة ، ولم يكن متوقّفاً على علوم كثيرة صعبة كالأدبيّة العرفيّة لغير من تكون لغته عربيّة ، وعلم الرجال وغيرهما ، بل كان متوقّفاً على مسائل سهلة واُمور يسيرة مثلا .
والّذي يختلج بالبال في كلّ أساس الإشكال أن يقال ولو على سبيل الاحتمال : إنّ دلالة المقبولة على اعتبار الاجتهاد المطلق فيمن جعل له القضاء والحكومة ، وإن كان ممّا لا تنبغي المناقشة فيه ، إلاّ أنّه لا يلزم الاعتبار مطلقاً بالإضافة إلى زمن الغيبة ، وفي جميع الحالات والشرائط والأمكنة والأزمنة .
توضيح ذلك : أنّ التشكيلات القضائيّة في كلّ نظام وحكومة حتى الحكومات الدنيويّة المنكرة لأساس الأديان فضلا عن الإسلام ، لها دخالة كاملة في حفظ تلك الحكومة وذلك النظام ، وإجراء مقرّراته وقوانينه ، وحفظ الأمنيّة التامّة وحقوق الناس ، ويصحّ التعبير عنها بأنّها يد الحكومة وقوام بقائها وضامن حفظها ، وهكذا في النظام الإسلامي والحكومة المبتنية عليه .
وحينئذ
نقول : إنّ إصرار الأئمّة (عليهم السلام) وتأكيدهم والتشديد على عدم جواز الترافع إلى قضاة الجور ، وحرمة ما اُخذ بحكمهم ولو كان حقّاً; لأنّه قد أُخذ بحكم الطاغوت ، وهو من مصاديق قوله تعالى :
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ
(الصفحة 47)
وَقَد أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ}(1) ليس لمجرّد كونهم فاسقين غير عادلين ، وكون حكمهم بالباطل غالباً وبغير حقّ ، بل لكونهم أيادي الظلمة وسلاطين الجور الغاصبين لحقّهم (عليهم السلام) ، ويكون الترافع إليهم تأييداً لهم ولمن هم من أياديهم ، وعدم الترافع يكون موجباً لضعفهم وضعف الحكومة الناصبة لهم .
ومن ناحية اُخرى لم يكن للأئمّة (عليهم السلام) القدرة الموجبة للنصب الخاصّ بالإضافة إلى الأفراد الذين هم مورد لنظرهم; لأنّ القدرة والسلطة كانت في اختيار الجائرين الغاصبين ، وكذلك لم يكن الحضور إلى محضرهم أمراً ممكناً غالباً ، لأنّهم كانوا في حصر شديد ومراقبة كاملة ، ولم يكن للشيعة الوصول إليهم في أيّ زمان أرادوا .
وعليه فيمكن أن يقال: بأنّ مفاد المقبولة النصب العامّ بالإضافة إلى زمن الحضور، لمن كان مجتهداً مطلقاً لا يحتاج إلى مراجعة شخص الإمام (عليه السلام) نوعاً . وأمّا إذا كانت الحكومة شيعيّة ، وكان الحاكم لائقاً شرعاً للحكومة ، فلا حاجة إلى الاجتهاد المطلق ، كما كان في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعليّ (عليه السلام) في زمان حكومته وخلافته ظاهراً .
كما أنّ الأمر كذلك في زماننا هذا بالنسبة إلى النظام الحاكم على مملكة إيران ، فإن إدارة التشكيلات القضائيّة نوعاً بيد القضاة غير الواجدين للاجتهاد المطلق ، ولا مجال لأن يقال : إنّ المجوّز لذلك الضرورة أو إذن المجتهد المطلق ، بل لا دليل على الاعتبار بعد كون اللاّزم عليهم إجراء المصوّبات ، أو الرجوع إلى فتوى مرجع خاصّ ، وليس لهم إعمال الاجتهاد الشخصي ، وإن كان ثابتاً بالإضافة إلى بعضهم .
فالتحقيق أنّ مفاد المقبولة إذن نصب عامّ بالإضافة إلى الشرائط المشابهة لا مطلقاً ، ولا دليل على إعتبار غير المقبولة حتى رواية أبي خديجة على ما عرفت .
(الصفحة 48)
نعم مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون القاضي عالماً بشؤون القضاء والحكومة ، ولم يكن عواماً محضاً غير قادر على فصل الخصومة ورفع التنازع بالموازين الشرعيّة المقرّرة كذلك ، والعجب أنّ مثل المحقّق في الشرائع أضاف على اعتبار الشرائط والصفات المعتبرة في الفتوى ورجوع المقلّد ، أنّه ولابدّ أن يكون عارفاً بجميع ما وَلِيَه(1) ، فراجع .
السادس : الذكورة ، ويدلّ على اعتبارها ـ مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه ولا إشكال من حيث الفتوى ـ التعبير بالرجل في معتبرة أبي خديجة المتقدّمة على كلا نقلها ، وقد عرفت أنّ هذا التعبير في مقابل الصبيّ والمرأة ، ولا مجال لدعوى إلغاء الخصوصيّة كما مرّ ، ويؤيّده ما رواه الصدوق بإسناده عن حمّاد بن عمرو وأنس بن محمد ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن آبائه (عليهم السلام) في وصيّة النبيّ (صلى الله عليه وآله)لعليّ (عليه السلام)قال : يا عليّ ليس على المرأة جمعة ـ إلى أن قال : ـ ولا تولّى القضاء(2) .
والسّند وإن كان ضعفه منجبراً بالشهرة المحقّقة وما فوقها ، إلاّ أنّ الدّلالة أيضاً غير واضحة; لأنّ عدم وجوب الجمعة وكذا الجماعة على النساء لا يرجع إلى البطلان لهنّ ، وهكذا تولّى القضاء وإن كان لا يكون واجباً لهنّ لا كفائيّاً ولا عينيّاً ، إلاّ أنّ عدم نفوذ حكمهنّ وعدم صحته الذي هو المدّعى لا يستفاد منها . ولكن قد عرفت دلالة رواية أبي خديجة عليه مع أنّه لا خلاف فيه ولا إشكال .
ودعوى أنّ التعبير بـ «من» الموصولة الشاملة للنساء في المقبولة المتقدّمة مطلق لا يختصّ بالرجال مدفوعة ـ مضافاً إلى الانصراف كما ادّعي ـ بأنّ الاطلاق يقيّد
- (1) شرائع الإسلام : 4 / 860 .
- (2) الفقيه : 4 / 263 ح821 ، الوسائل : 27 / 16 ، أبواب صفات القاضي ب2 ح1 .
(الصفحة 49)
برواية أبي خديجة ومثلها ، ومضافاً إلى أنّ منع إمامة المرأة للرجال وإمامتها للنساء أيضاً ـ كما اخترناه على سبيل الاحتياط الوجوبيّ ـ يقتضي المنع هنا بطريق أولى; لأنّ منصب القضاء أهمّ من الإمامة للجماعة ، خصوصاً مع توقّف القضاء على أمور لا يجتمع مع تستّر النساء الذي هو مطلوب أيضاً .
السابع : طهارة المولد ، ويدلّ على اعتبارها ـ مضافاً إلى أهميّة منصب القضاء ، وغير طاهر المولد محقّر في المجتمع ، ولا يعبأ به كثيراً . وإلى أنّ مقتضى الأصل عدم نفوذ حكمه وقضائه ـ الأُولويّة القطعيّة بالإضافة إلى إمام الجماعة والشاهد ، فإنّه إذا كانت الطهارة معتبرة فيهما ففي القاضي بطريق أولى ، ويمكن دعوى انصراف أدلّة النصب عن مثله ، كما لا يخفى .
الثامن : الأعلميّة ممّن هو في البلد أو ما يقربه ، وقد ذكر في المتن أنّ اعتبارها إنّما هو على سبيل الاحتياط . وغير خفيّ أنّ اعتبارها في المرجع على تقدير الاعتبار إنّما يكون هي الأعلميّة المطلقة لا الأعلميّة بنحو ما ذكر .
ويدلّ على اعتبارها مثل قول علي (عليه السلام) فيما عهده إلى مالك الأشتر : ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(1) . وما ورد في المقبولة المتقدّمة من الترجيح بالأفقهيّة والأصدقيّة والأعدليّة ، وموردها وإن كان صورة اختيار كلّ من المترافعين حاكماً ، أو صورة رضاهما بحكمين فاختلفا ، إلاّ أنّه يستفاد أنّ المدار على الأرجح عند التعارض مطلقاً ، ولكن ظهور الاستفادة ووضوحها ممنوع .
التاسع : أن يكون ضابطاً غير عارض عليه النسيان على خلاف العادة ، أمّا إذا كان الغالب عليه النسيان بحيث كان مسلوب الاطمئنان ، فالأقوى اعتبار عدمه;
- (1) نهج البلاغة : كتاب 53 ، الوسائل : 27 / 159 ، أبواب صفات القاضي ب12 ح18 .